• گري موزان الأثري – أوركيش –
جمعة معمو
كحالةٍ إنسانية تنزع البشرية بكافة شعوبها لمعرفة ماضيها ، وما خلّفه أجدادهم وأسلافهم من أثر ، هذا الأمر الذي يستجلب معه أسئلة عديدة ، ولتتراتب الأجوبة من ذات الماضي فنستنتج معها أجوبة وان ابتدأت بمن نحن ؟ إلا أنها ستعبر فضاءات ماذا أنتجنا ؟ وقدّمنا للبشرية ؟ هذا التاريخ بصفحاته ليست قصصاً وأحاديث بل منتوج مادي دخلت ساحة البحث والتقصي والتنقيب واستجرّت معها سلسلة كبيرة من العلوم المساعدة ، ورُصِدت لها ميزانيات ، وتغرّغت كوادر علمية وبحثية بتقنيات عالية لإعادة صياغة ذلك الماضي الجميل ، وهنا وباختصارٍ لابدّ لي من التذكير بخاصية علم الآثار وبعثاتها ، ونظراً لخصوصية كُردستان المجزأة والملحقة بأربعة دول ، فقد خضعت الدراسات الأثرية فيها إلى نوعٍ من الخضار المدمّر لها وتشويهها إلى حدٍ طمر كثير من الحقائق والوثائق كما النقوش أو أي مؤشّر ذي خاصية كُردية ، وهنا ساختصر لنقرأ سويةً عن موقعٍ أثري هام يقع بالقرب من مدينة عامودا وأعني به: گري موزان /
تل موزان:
هو موقع أثري بالقرب من عامودا ، وهو الاسم الحالي لمدينة أوركيش. التي ازدهرت في نهاية الألف الثالث وبداية الألف الثاني قبل الميلاد, يقع تل موزان جنوبي شرق مدينة عامودا – غرب قامشلو, يبعد عن مدينة الحسكة 100كم. في عام 1934م, قام الباحث الإنكليزي (ماكس مالون) بعمليات بحث محدودة قبل أن يذهب إلى جاغر بازار, وفي عام 1984م, تمّ تجديد البحث والتنقيب من قبل البعثة الأمريكية التابعة لجامعة لوس أنجلوس بإدارة عالم الآثار البروفيسور جورجيو وزوجته مارلين كيلي بوتشلاتي, حيث يقول البروفيسور: نحن نعود بالزمن إلى بداية الحضارات قبل خمس ألفيات ونصف بعيداً كقدم السومريين, ولكن هذه الحضارة ليست سومرية فتميّز أوركيش يعود إلى أنها تنحدر من أصول مختلفة تماماً ألا وهم الحوريين, لقد لعبت أوركيش دوراً عظيماً في التاريخ وذلك بتخيل وجلب صبغ جديدة في الحياة الاجتماعية والتنظيم السياسي إلى حيز الوجود, كان من الصعب تحديد العرق من خلال السجل الأثري ولاسيما أنّ قضية الحوريين على وجه الخصوص مثيرة للجدل, إلا أنّ العناصر مثل اللغة والآواني والدور الرئيسي الذي لعبته أوركيش في الأساطير الحورية القديمة كافية لتبرير الادّعاء بأنّ أوركيش كانت بالفعل حورية, وحيث أنّ أوركيش كانت موجودة في حلول منتصف الألفية الرابعة قبل الميلاد فإننا نستطيع أن نعتبر الحوريين كسكان أصليين في هذه المنطقة .
– هوية أوركيش :
عثرت البعثة الأمريكية على أختام من طبقات ستة وكانت أختاماً مختلفة للملك (توبكيش) وكان يدعى في جميعها (إندن أوركيش) وهو المرادف للمصطلح السومري لكلمة ملك, والذي هو (لوغال أوركيش) وهنا يمكننا أن نستنتج بأنّ (إندان) هو المرادف الحوري.
– أوركيش خلال الثلاثة آلاف عام:
في 3500 ق.م. كانت أوركيش عبارة عن مركز ديني كبير مع وجود مصطبة معبد ارتفعت نحو 20 متراً فوق مستوى السهل خلال هذه الفترة كانت تل براك (ناغارا القديمة) أيضاً مركز ديني هام آخر في 2500ق.م كانت مصطبة القصر الضخمة لأوركيش قد بُنيت فوق المصطبة القديمة مع جدار المدينة الكبير الذي طوّق مساحة قدرها 130 هكتار, خلال هذه الفترة كانت تل مرديخ (إيبلا القديمة) قد وصلت إلى أوج قوتها أيضاً.
في 2200 ق.م استولى ملوك أكاد على معظم سوريا ما عدا أوركيش التي كانت تُحكم من قبل الملك (توبكيش) الذي بنى قصره الملكي الكبير هناك, وقد كان محمياً بحكم أنّ سلالته كانت متحالفة مع الإمبراطورية الأكادية وخليفته كان ابنة (نارام سين) ، وقد وجدت مجموعة أختام من ضمنها ختم للملكة تتضمّن أحد أختام الملكة (نارام آغاد), من أهم اللقى في أوركيش كانت ل نارام آغاد ابنة الملك نارام سين أحد أعظم ملوك بلاد ما بين النهرين ويشهد ختمها على أهمية نسبها, ويظهر الختم الآخر الذي اكتشف في التنقيب المشهد البطولي لصراع الحيوانات الذي يُعتبر سمة مميزة لدى السلالة الأكادية الحاكمة.
معبد الأسد:
يتميّز هذا المعبد بشكله الدائري مع درج للصعود، وقد بُني تقريباً في عام 2600 ق.م مع وجود درج, وبقي هذا الدرج قيد الاستعمال الدائم لأكثر من ألف عام . وما يلفت النظر أنّ تسلق درج المعبد لم يكن تجولاً عرضياً ، وإنما صعود نحو قوة سامية للعالم الإلهي. وهذا كان يمنح المتعبدين في أوركيش شعوراً بالارتفاع إلى ما فوق مستوى الحياة اليومية, وبالتالي السمو نحو الملكة السماوية.
الآلهة الحورية:
كان المعبد في تل موزان مخصّصاً للآلهة الحورية (كوماربي: اب) إلى جميع الآلهة وهو يظهر أيضاً في النصوص الحورية المتأخرة.
طقوس حورية – الألتاني:
حسب النصوص الحورية أنّ الأفاعي كانت تُستخدم في طقوس تكهنية للتنبؤ بالأحداث اعتماداً على تحركاتها في الماء, وقد عُثر على جرة الألتاني المكسورة فوق أرضية القصر مباشرة.
الآبي:
الآبي المكان الأكثر غموضاً في أوركيش وفي الدين الحوري, وهو غامض لأنّ غايته كانت تأمين مقابلة الناس مع الآلهة في هذا البناء المظلم العميق, وذي البناء الحجري وعلى شكل دائري موائم مع الدرج نزولاً, يُدعى الآبي في اللغة الحورية: يقوم الوسيط باستدعاء أرواح العالم السفلي ويضع الناس في احتكاك مباشر مع آلهتهم, الاعتقاد بمقابلة الآلهة وجه لوجه هو شيء مميز جداً في الدين الحوري على خلاف دين السومريين والأكاديين إذ بالنسبة لهما كانت الآلهة تتكلّم من خلال رموز قابلة للتنبؤ (كتحركات الأجرام السماوية), بالقرب من الآبي عُثر على رأس تمثال كان يُستخدم في بعض الطقوس كحرق أنواع معينة من البخور مثلاً, وأيضاً تمثال الخنزير بشكل فم داخل الآبي – كانت الخنازير الصغيرة والكلاب من أكثر الحيوانات شيوعاً للتضحية.
الكتابة:
من المثير للاهتمام أنّ الكتابة على الأختام كانت باللغة الحورية المستخدمة للنصوص الإدارية, من تلك الأختام اثنين من حاشية الملكة (تارام – أغاد), الختم الأول بصبغة أكادية وهو لرجل يحمل أسماءً حورية (أوريم – أتال) أما الأخر فقد تميّز بصبغة شمالية على الرغم من أنه كان لرجل يحمل أسماءً أكادية (إشار – بيلي).
ختم الملكة أوكنيتوم:
اختارت الملكة أوكنيتوم التي سبقت تارام – أغاد مشهداً آخر لختمها, فهي عمدت إلى ابراز دورها كزوجة رئيسية للملك الحاكم وكأم لولي العهد, وهناك ختم آخر للملكة تظهر إلى جانب خنزير صغير بما أنّ الخنازير الصغيرة كانت مهمة في طقوس الآبي وللمرأة التي تؤدّي الطقوس الحورية لاستحضار الأرواح.
وقبل الختام : لابدّ لنا من تسليط الضوء على لقى أخرى اكتشفت في الموقع ، مثل الخرز والقلائد وقطع الفخار من سوية مختلف الطبقات وقطع المعادن كالدبابيس والمسامير البرونزية ورؤوس حرب وإضافة إلى أعداد كبيرة من المشارط والمقاحف المصنوعة من الحجر. بقي أن أضيف بأنّ التنقيب من قبل البعثة الأمريكية قد توقّف فيها منذ عام 2010 .
المصادر :
الفكرة والنص من عالم الآثار جورجيو بوتشيللاتي ( رئيس البعثة الأمريكية في تل موزان)
جمعة معمو كاتب المقالة..
صور من كري موزان