ومن جديد المظلومية الكُردية
إعداد ليلى قمر ووليد حاج عبد القادر
القسم ج من 2 / 3
في القسم السابق لاحظنا نمط الآليات التي اتّبِعت ، كما سبل وكيفية إتمام تراتبية الأوضاع وفق ما ذهبت إليها بريطانيا خاصةً في التعامل مع أزمة الموصل وطريقة حلها ، وفق ما اقتضته مصلحتها كدولةٍ منتدبة ، وفي ذات الوقت وسائل التفاهم البينية مع الدولة التركية ، وكلّ ذلك تمّ وبتعاملٍ شابَهُ حذرٌ كبير من ردة فعل الكُرد على المخططات التي أخذت تنكشف وبوضوحٍ وقد استشفوا – الكُرد – بأنهم فعلاً خُدعوا ، لابل كانوا لازالوا عملياً مستهدفين أيضاً ، هذا الأمر الذي أدّى بالشيخ محمود الحفيد إلى إعلان ثورته منذ اللحظات الأولى لقدوم البريطانيين ، وازدياد نبرة التحدي عنده من جهة ، والرغبة في إعلان استقلال كُردستان ، وبالتالي إعلان المقاومة وفق العوامل والظروف المساعدة ، حيث استمرّ في عملياته بين مدٍّ وجذرٍ الى عام 1930 ، إلا أنّ قوات الحكومة العراقية وبمؤازرة بريطانية تمكّنت من القضاء على ثورة الحفيد والحدّ من طموحاته ، ولكن هل استطاعت وأد الطموح الكُردي والحدّ من مطالبته بحقوقه ؟ من المؤكّد بأنّ مآلات الاوضاع تؤكّد عكس ذلك ، حيث اتّخذ الكُرد في مسارهم النضالي بعداً آخر ، كما وتوجّهاً قياديا جديداً ، وذلك بانتقال قيادة النضال إلى عائلةٍ جديدة وهي العائلة البارزانية ، والتي يستذكر التاريخ بداية ظهور دورها إلى منتصف القرن التاسع عشر ، حيث تؤكّد المعلومات بأنّ مسيرة هذه العائلة ابتدأت مع رجل دينٍ من شيوخ الطريقة النقشبندية وكان اسمه محمد ، وتكنّت بإسم البارزاني نسبةً إلى قرية بارزان ، وبعد وفاة الشيخ محمد ، حلّ مكانه ابنه عبدالرحيم الذي وسّع دائرة نفوذه ، وكان له خمسة أبناء هم الشيخ عبدالسلام والشيخ أحمد والملا مصطفى والشيخ صديق ومحمد بابو . وتمكّنت هذه الأُسرة من بسط نفوذها على منطقة بارزان وما حولها ، وأخضعت لها القبائل الكُردية . وبعد رحيل الشيخ عبدالرحيم حلّ مكانه ابنه الشيخ عبدالسلام وعدّ كمرجعٍ لمنطقة بارزان ، واتخذ قراراتٍ واجراءات بحق الدولة العثمانية ، فرفض إرسال متطوعين من مؤازريه إلى الجيش العثماني أثناء الحرب العالمية الأولى . كما وامتنع عن دفع الضرائب أيضاً لها ، ولم يكتفِ بذلك بل أعلن من مدينة عقرة عصياناً مسلحاً ، فوجّهت إليه الدولة العثمانية حملة عسكرية قوية وتمّ أسره ، حيث أعدِم في الموصل بعد محاكمةٍ صورية . وليتولّى الأمور من بعده في بارزان شقيقه الشيخ أحمد ، الذي برز على المسرح السياسي ، في زمن الاحتلال البريطاني ، والتي قدّمت له العون المادي والمعنوي ليبسط سيطرته على المنطقة الشرقية من كُردستان . ومن جانبه أعلن الشيخ أحمد بن عبدالرحيم البارزاني تمرّده على الحكومة العراقية ، كردٍّ على محاولتهم في أكتوبر سنة1931 بنشر مخافر للشرطة في منطقة بارزان ، بحجة وزعم وضع حدٍّ لاعتداءات البارزانيين المتكررة على القرى الكُردية . وحدث تصادم دموي بين الشرطة والجيش من جهة ، وأنصار أحمد البارزاني من جهة أخرى ، في نوفمبر 1931 ثم توسّعت الأعمال العسكرية فيما بعد ، حتى 22 يونيه 1932 ، حيث قامت الطائرات البريطانية بقصف القرى في منطقة بارزان وتمّ تدمير حوالي 1365 بيتاً، وليحتلّ الجيش العراقي زيتا في جوار الخاد كواندة وطوّقت القوات الحكومية الشيخ أحمد البارزاني الذي اضطرّ إلى تسليم نفسه لقوات حرس الحدود التركية . وبالرغم من أنّ الحركة البارزانية الأولى قد عدّت منتهية منذ الخامس من يوليو عام 1932 إلا أنّ تتبعاتها ظلّت لنحو سنة كاملة ، حيث لم تنقطع الاضطرابات خلالها في المنطقة . وكان لاكتفاء الحكومة التركية بإبعاد الشيخ أحمد البارزاني إلى أرضروم ، دور في ذلك بإبقائه لأخويه الملا مصطفى والشيخ صديق وأولو بك وخليل خوشوي التابعين لهما ، فقد ظلّوا قرب الحدود ، يعبرونها إلى الأراضي العراقية ويقاومون الجيش وبعضاً من موالي بريطانيا . وفي 13 أيار سنة 1933 أصدرت الحكومة العراقية عفواً عاماً عن جميع البارزانيين . وفي 29 يونيه 1933 سلّم الملا مصطفى والشيخ صديق وأولو بك أنفسهم مع مائتين من أتباعهم في شيروان مازن ، ولحق بهم الشيخ أحمد البارزاني . ولكن ومع ذلك لم تهدأ منطقة بارزان ، إذ تواصلت أعمال العصيان التي انبرى لها خليل خوشوي أحد أبرز معاوني البارزاني ، وتمكّن الزعيم الملا مصطفى من الفرار ، وليعود ويتزعّم الثورة من جديد . الأمر الذي حدا بالحكومة العراقية الى توجيه حملة عسكرية في فبراير 1936 ، وقتلت خليل خوشوي والتجأ الملا مصطفى البارزاني إلى الجبال . ومع نجاح انقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936 رضي الملا مصطفى البارزاني بالإقامة الجبرية في السليمانية بعيداً عن منطقته . ولكن وبالتأكيد في انتظار الفرصة المؤاتية ، حيث أنه ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية ، هرب الملا مصطفى من محل إقامته الجبرية في السليمانية ، وعاد إلى بارزان في يوليه عام 1943 ، وأشعل انتفاضةً جديدة استطاع أن يهيّئ المنطقة للأعمال العسكرية ، وعلى الرغم من محاولة الحكومة العراقية معالجة القضية بالوسائل السياسية ، حيث سعت من خلال توزير ماحد مصطفى الكُردي الأصل في منصب وزير في الحكومة ، وبذات الوقت كلّفته بالتفاوض مع البارزاني . ونجح ماجد مصطفى في مهمته ، وانتهت بتسليم الملا مصطفى نفسه للجيش العراقي في 7 يناير عام 1944. وجيء به إلى بغداد واشترط عليه أن يسلّم أتباعه أسلحتهم ، ومقابل ذلك يُعاد أخوه أحمد البارزاني إلى منطقة بارزان وتزوَّد المنطقة بالمواد الغذائية والملابس . وكتوكيد من الحكومة المركزية ولتحسين الإدارة المدنية ، تمّ تعيين سبعة ضباط ارتباط من الضباك الأكراد العاملين في الجيش العراقي لإدارة منطقة بارزان بصورةٍ مؤقتة ، وبإشراف وزير الدولة ماجد مصطفى وإدارته . ومالبثت هذه الإدارة أن أخذت تعمل لمصلحة الملا مصطفى البارزاني ، وسخرت كل جهودها في تحويل الحركة وتطويرها من عصيانٍ إلى حركة قومية كُردية في مواجهة الحكومة العراقية ومتبنية مطالب قومية كُردية صريحة . ومع اتخاذ الحكومة العراقية قرار إحالة الضباط الأكراد السبعة إلى التقاعد ، كانوا هم أيضاً قد اتخذوا قرار الإلتحاق بثورة الملا مصطفى البارزاني ، الأمر الذي أدّى الى نقلةٍ نوعية في بناء وتهيئة قوات البارزاني ، ومن ثم ليصبح أقوى شخصية في المنطقة الكُردية بأسْرها ، ومع زيادة نفوذه بين القبائل والعشائر الكردية ، وقدّم الضباط الأكراد الذين التحقوا به ، خدمات عسكرية عظيمة في فنون القتال وتأسيس مراكز عسكرية محصنة ، تشرف على الطرق الرئيسية المؤدية إلى منطقة بارزان . وفقدت الحكومة العراقية هيبتها في المنطقة . وبالتأكيد لم يقف البريطانيون متفرّجين بل قدّموا في بعض الاحيان للملا مصطفى بعض من العون المادي والعسكري . واستطاع أن يؤمّن اتصالات مستمرة مع الاتحاد السوفيتي حينها أيضاً . وباشر الملا مصطفى البارزاني ثورته في أغسطس 1945 ، حينما أوعزت حكومة بغداد لقواتها باحتلال منطقة الثورة ، والقبض على الثوار المنتفضين بزعم إعادة الطمأنينة والأمن للمنطقة . وكانت قوة البارزانيين تقدّر حينها بحوالي 2500 مسلح مزوّدين ببنادق حديثة ، وكانوا يسيطرون على منطقةٍ واسعة تمتدّ من روست حتى العمادية ، ومن سر عقرة حتى نهاية برادوست . وكان يقودهم سبعة من ضباط الجيش السابقين وعلى مقربة منهم كان الجيش الروسي الذي قدّم لهم العون المادي والمعنوي ، ومع زيادة حشد الجيش العراقي لقواته طلب الملا مصطفى من جمعية “الكومه له” الكُردية في إيران عوناً عسكرياً عاجلاً ، فأمدّته بأربعمائة مسلح من طريق منطقة برادوست المحاذية للحدود الإيرانية . ونشب القتال بين قوات الحكومة والثوار الكُرد ، في 25 أغسطس 1945 في بادليان على مقربةٍ من بله ، ونشبت معركة شرسة وقاسية بين الطرفَين . ولم تسفر المعركة عن نتائج حاسمة حتى 4 سبتمبر 1945 ، حينما حقّق الجيش العراقي بعض النجاح في احتلالها لبعضٍ من المواقع الكُردية . وبعد قتالٍ عنيف ومتقطع لعدة أسابيع ، ونظراً لتفوق الجيش العراقي الناري ، تمكّن وبمؤازرة القوات غير النظامية من هزيمة الكُرد حيث دخلوا قرية بارزان في 5 أكتوبر 1945 ، وانسحبت القوات الكُردية إلى ( كاني رش ) في اتجاه الحدود الإيرانية في 9 أكتوبر 1945 . وليدخل الملا مصطفى البارزاني منطقة آذربيجان الإيرانية التي كانت تحت الاحتلال الروسي أثناء الحرب العالمية الأولى ، ووصل أخوه أحمد إلى إيران وبقي الملا مصطفى سنة ونصف السنة في آذربيجان تحت ظلّ الحكومة الكُردية التي كان قد أسّسها الروس في صاوجبلاق الإيرانية برئاسة جعفر بيشواري . وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 ، اضطرّ الروس إلى الانسحاب من إيران ، بعد أن كانوا قد ثبّتوا أركان حكومة جمهورية مهاباد الكُردية ، التي ضمّت حكومة بيشواري، ونصب القاضي محمد رئيساً لها . إلا أنّ هذه الجمهورية لم تلبث أن انهارت أمام هجوم القوات الإيرانية ، واشتبك البارزانيون مع القوات الإيرانية التي تعقّبتهم حتى الحدود العراقية ، وهناك كانت القوات العراقية أيضاً في مواجهتهم ، وليستسلم لها القسم الأكبر منهم . ولتدخل قوافلهم مع أُسَرهم إلى العراق في أبريل 1947 ، وكان من بينهم أحمد البارزاني وأربعة من الضباط الأكراد . وقد حوكم الضباط الاربعة وأعدموا ، أما الملا مصطفى البارزاني فقد رفض الاستسلام ، وتسرّب عبر الحدود العراقية وبدأ في محاربة الحكومة التي اعلنت بدورها الأحكام العرفية في قضائي رواندوز وزيبار ، وسائر المناطق المتاخمة للحدود العراقية – الإيرانية . وتجمّعت القوات الكُردية في شمال شيروان مازن ، وفي 20 مايو 1947 باغتت القوات العسكرية العراقية قوات الملا مصطفى البارزاني في هوبا ، عند السفوح الشمالية لجبل بوتين . وحينما تأكّد من عدم قدرته على المقاومة ، توجّه إلى تركيا ومنها دخل إلى إيران ثانيةً ، وتوجّه صوب الاتحاد السوفيتي والتجأ إلى روسيا . وبذلك هدأت الأحوال في منطقة كُردستان العراق لأكثر من إحدى عشرة سنة .
وفي الاتحاد السوفيتي مُنح الملا مصطفى حق اللجوء السياسي ، وتدرّب على الفنون العسكرية ، إذ اشترك في بعض التدريبات العسكرية ، وأعطي رتبة ( جنرال ) شرف . وهناك أيضاً أسّس الملا مصطفى البارزاني الحزب الديموقراطي الكُردستاني ، الذي عُرف فيما بعد ، باسم “البارتي”، وانفتح الحزب على بعض من التوجهات اليسارية وبمؤازرة الشيوعيبن والتيارات الماركسية وبالإستفادة من خبراتهم ، أسَّس له فروعاً في المنطقة الكُردية العراقية . ونشط الحزب في إصدار المنشورات وأصدر مجلة حزبية واكتشفت السلطات العراقية أمره فاعتقلت معظم أعضاء لجنته المركزية فتفرّق أعضاؤه . وشهدت الفترة من عام 1947 إلى عام 1958 ، ركوداً في الحركة الكُردية .
يتبع
….
تقع قرية بارزان على سفوح جبال شيرين الجنوبية الواقعة في جنوب سلسلة جبال شيروان الفاصلة بين حدود تركيا مع العراق. وهي تابعة لقضاء الزيبار وتقع على بعد 25 كم شمال شرقي مدينة عقرة .وتقع في منطقة جبلية وعرة تحيط بها الجبال وترتفع أكثر من ألفي متر فوق مستوى سطح البحر، هذا الموقع جعلها منيعة على من أرادها وأكسبت أهلها البأس والشدة، وصارت موئلاً للعصيان وملجأ للهاربين من العدالة.