حــوار مع زكية حسني.. حين تكون المرأة (الأب والأم) نساء المعتقلين / أنموذجاً/
حــوار مع زكية حسني
في زمنٍ كان فيه الاستبداد قوياً ومرعباً، وأبواب معتقلاته كأني بها فقط للدخول .. في زمنٍ طغى فيه الاستبداد والظلم ، وجِد فيه أيضاً رجال كُرد عتاة أصرّوا أن يصارعوا قضبان السجون دونما خوفٍ أو وجل ، لا لجرمٍ أو خللٍ مارسوه ، بل دفاعاً عن قناعاتهم الوطنية وحقوق شعبهم الكُردي .. نعم كانت تلك المرحلة في أوج الاستبداد والنكران القومي لقضية الشعب الكَردي ، ومعها دارت عجلة النضال القومي الكُردي ، ووجدت إرادة أصرّت أن تسمع معاناة شعبها للرأي العام ، نعم ، إرادة صمّمت أن تجعل من المعتقلات والسجون ومحاكم أمن دولة النظام ساحةً عملية لنضالٍ وتشبثٍ قويين بحقوق الشعبى الكُردي …
وفي الجانب الآخر : لمن بقيوا خارجاً .. الزوجة .. الأطفال .. الجيران .. الشارع .. كلّها حالات ، ولكن تبقى هواجس الزوجة .. نعم الزوجة التي أصبحت أما و أباً أيضاً في ذات الوقت .. وهنا وكإرثٍ وتوارث وامتداد لقيمة ذلك العمل النضالي ارتأينا في حزب يكيتي الكُردستاني – سوريا ، ومن خلال جريدة الحزب المركزية التوجّه إلى لبواتٍ حقيقيات لم يقلّ نضالهنّ بل تضاعفَ، وبعد كلّ هذه الفترة الطويلة .. نعم توجّهناإلى مناضلاتٍ لم تقلّ أدوارهنّ،إن لم تزد، عن أزواجهنّ المناضلين والمسجونين في زنازين ومعتقلات النظام ، في وقتٍ كانت الزوجات بأطفالهن في أمسّ الحاجة للأب المعتقل ..
وفي هذه الحلقة سنتوجّه الى السيدة زكية ابراهيم حسني زوجة المعتقل السابق الكاتب والروائي وليد حاج عبدالقادر ،الذي دام اعتقاله حوالي سنتين وشهر ..
السيدة زكية حسني : بدايةً ولتسمحي لي بمحاكاة جوانية زوجةٍ شابة وأم يانعة وجدت ذاتها فجأةً في معمعة واقعٍ جارف بعد اعتقال الزوج والسند ! كيف تقبّلت خبر اعتقال زوجك الأستاذ وليد.
رؤية المجتمع وردّة فعله سلباً أو إيجاباً
حجم المسؤولية بعد أن أصبحتِ الأب والأم
نأمل وبكلّ تقديرٍ أن تسردوا لنا وبكلّ أريحية عن تلك المرحلة بكلّ قسوتها وخاصةً أنكم من عائلةٍ تعرّضت لذات الظروف في اعتقال والد زوجك الحاج عبدالقادر كري والأستاذ وليد كان حينها طفلاً .. موقف النظام بعد اعتقال والد أطفالك .. وشكراً
رد السيدة زكية ابراهيم حسني ام شيندا :
السيدة ليلى قمر : دعيني في البداية أن أتقدّم لشخصكم بجزيل الشكر ومن خلالكم إلى رفاقكم، رفاق وليد – بافي شيندا – على هذه المبادرة ولو أنها جاءت بعد حين ، وكتقدير خاص لشخصكم الأستاذة ليلى ومن خلالكم إلى رفاقكم .. رفاق زوجي وكادر جريدتكم الغرّاء . أستاذة ليلى : النضال من أجل قضية الشعب الكُردي هو القاسم المشترك كان بين عائلاتنا وأعنيكم أنتم أيضاً ، وبالنسبة لي فقد تعرّض جدي لابي وأخوته للضغوطات والملاحقة والتهجير بسبب نشاطهم القومي وتركوا منطقتهم هرباً من الاعتقال، وهكذا عمي والد زوجي المعروف الراحل حاج عبدالقادر كري الذي تعرّض للإعتقال واستجوابات كثيرة ، ولا أخفيك أستاذة : إنّ ما شدني إلى وليد عدا صلة القرابة كانت مواقفه ونشاطه السياسي وهو بعد في بداية المرحلة الثانوية ، وازدادت طبيعة نشاطه السياسي يتضح من خلال تشاركه مع أخي طالب العلوم الجيولوجية بجامعة دمشق وتوأم روح وليد وقناعاتهما السياسية المشتركة ، الراحل فاروق ابراهيم حسني.
وبعد الزواج أصبحت تتوضّح عندي أمور وقضايا أخرى وصرت أتلمّس روحيته النضالية، وجرأته وكذلك تفانيه النضالي ، وهنا دعيني أذكر لك مثالاً : كان بريدهم الحزبي ( المطبوعات ) على الأغلب نحن من يجلبها وكانت هناك مخاطر حقيقية ، وقد نبّهته لذلك وقلت ,: لماذا فلان وفلان .. فكان يقاطعني ويقول : أنا إن اعتقلت فوالدي وأخوتي سيتكفّلون بوضعكم ، أما فلان فلا أحد له.
وسأذكر مثالاً آخر :تلك الطاقة التي كان يملكها للتوافق بين عمله الوظيفي ومهامه الحزبية من دورات لغة كُردية الى البريد والاجتماعات ، والاستجوابات الأمنية ، على حساب راحته الشخصية ، ولا زلت أتذكّر كلمات ابنتي بنار الطفلة حينها كانت ، حيث قالت مستفسرة ( ماما لماذا بابا يخرج في الظلام ويعود في الظلام ) ، ولا أخفيكم سراً وكأية زوجةٍ بأنني كنت اصطدم معه كثيراً خاصةً في شهري شباط وآذار ، حيث المناسبات ، إضافةً إلى القلق الدائم عليه ، وكذلك البريد ( من جديد ) الذي كان يرافقنا في غالبية أسفارنا وأطفالي الأربعة كثير ما لففت أجسادهم بمنشورات حزبية، وهنا سأذكر امراً : في كلّ نقلٍ للمطبوعات كان رفاقه يجلبونها أما لبيت صديقه محمد أومري أو محمد مصطفى أو إلى بيت اهله ، وكان أخوه آلا يحضر قطعة من القماش ويلفّون المطبوعات بطريقة احترافية أو كنت ألفه حول جسم الطفل ، أضيفي إلى ذلك الاجتماعات الحزبية المتكرّرة في بيتنا بالحسكة ، وكذلك الضيوف القادمون من مناطق أخرى ، وعمري ما مللت منه.
لقد عانى وليد كثيراً من الاستجوابات والمضايقات وفي واحدةٍ منها ظلّت آثار الكابل كخدوشٍ على ظهره وبطنه ، وفي الواقع فقد كنا قد تعوّدنا على ذلك الجو ، وأي غياب له بشكلٍ مفاجئ كان دائماً مصدر قلقٍ لنا . كان وليد صادقاً معي دائماً في مسألة احتمالية الاعتقال المفاجئ ، وخاصةً حينما كان يستشعر بالخطر ، وعمري لن أنسى ذلك الهاجس في تلك اللحظات التي واجهني فيها وقال بكلّ برود : اسمعي وأنا أصدقك القول ,؟! أنا مشروع اعتقال فإن اعتقل أربعة من رفاقي سأكون الخامس ، ورغم تعوّدنا على الاستدعاءات والاستجوابات التي تعرّض لها ، حيث لم يبقَ فرع إلا وأخذوه إلى أن أخذته الشعبة السياسية ورحّلوه مع رفاقه إلى دمشق .
عزيزتي ليلى : أن تكوني مؤمنة بقضية شعبك وناسك من حولك ، وطبيعي هنا أن يصادفك أشكال وألوان من الناس ، في محيطي العائلي كنا وأولادي مثار فخر لهم ، وكان هناك أيضاً مَن يشمت فينا، وإن من دون مجاهرة ، وهنا دعيني أذكر لك مثالين : الأول بيت جيراننا الآثوري أبو رابي القيادي في التنظيم الآثوري من رفاق بشير السعدي وكذلك زوجته أم رابي ،هذا الرجل الذي تعرّض كثيراً للاعتقال ، وأيضاً عائلة المدرس حنا عيسى وزوجته أم عيسى ، وكذلك عضو قيادة فرع البعث حينها خالد خلف ولقبه أبو جوان ، كانت أم جوان وزوجة ابنه السورانية من كُردستان العراق ..
كان هناك تقدير ملحوظ وفخر يشوبه كبرياء وآخرون يكتمونها خوفاً ، ولكن عمره لم يستطع أحد ان يتقوّل بحق زوجي، فهو كان مناضلاً من أجل قضية عادلة ومواقفهم كانت أيضاً محل تقدير وفخر ، أمر ثان أرى أن أقف عنده وهو موقف حزبه ورفاقه الذين بادروا منذ أول شهرٍمن الاعتقال بتقديم راتب شهري ، إلا أنّ عمي رحمه الله ، طلب مني عدم استلام النقود وليضيفوها لرواتب الآخرين وأن عميّ وأخوة وليد قادرون على توفير مستلزماتنا ، نعم ، عزيزتي ليلى ! وكما تفضلتِ : زوجة محبة لزوجها وابنة خالته وأم أولاده وهو مغيّب ومصيره مجهول ، ونحن سمعنا الكثير من أساليب التعذيب الوحشي ، أصدقك القول ! بكيت مراراً وأنا أتصوّر ما قد يكون هو فيه ، أولادي المتعلّقون بأبيهم وبشدة ، ووليد كلّ مَن يعرفه يعلم درجة حنانه وتعلقه الفظيع بأولاده.
نعم أستاذة ليلى هناك أمر أيضاً يجب أن أقوله : كانت المخابرات تسرّب بأنّ المعتقلين انهاروا تحت التعذيب ، وكان هناك أيضاً تسريبات من شرفاء كان يتمّ استدعاءهم ويخرجون وينقلون لنا صوراً سنظلّ نفتخر ، وهنا علي أن استذكر تلك اللحظات وفي وقفةٍ مع الذات : لن أنسى مهماتي الجديدة والمتعددة ، العمل والبيت والأولاد ودراستهم ، وكان قربي من بيت أهلي عامل مخفّف نسبياً ، وكذلك أخوة وليد وأهله وبكلّ جدارةٍ أقول لك : لقد كان الشارع الكُردي كلّه أحسّ وأدرك بنبل مشاعرهم ، كثيرات زرن بيتنا وعائلات من حولنا كانت تصلنا مشاعرهم التضامنية ، ورغم أنّ كلّ مناسباتنا كنا نقضيها بدار عمي بالقامشلي ، إلا أنه ولمجرد العودة إلى الحسكة كانت الدار لا تخلو من زوار ، ونقطة أخرى لابدّ لي من ذكرها ، فقد طرح علي عمي وأخوة زوجي أن ننتقل الى القامشلي ونسكن شقة للعائلة هناك في مساكن الرصافة ، ولكنني قلت لعمي وأخوته : اعتقلوا وليد في الحسكة وسأنتظره هنا في الحسكة ، وفعلاً تمّ ذلك وانتقلنا إلى قامشلو بعد خروجه من المعتقل ، أما بالنسبة إلى الأولاد فقد كان ولدي هفراز مثل أبيه ، حيث جاءنا إلى بيت والدي جارهم الراحل سعيد اسحق وقال لوالدي : حفيدك ابن وليد كلّ يوم يلمّ أطفال فلان وفلان ويسيرون في الشارع ويهتفون وقد نبّهته بأنّ الشرطة ستأخذهم وردّ ليكن فقد اشتقت لأبي وسيأخذوني لعنده، أما كوران فقد كان طفلاً، وبناتي شيندا وبنار في كلّ مناسبة ورغم التفاف كلّ العائلة من حولهما ، لم تمضِ مناسبة من دون بكاء حارق .
أستاذة ليلى : أنت تفضلتِ وسألتِ عن إحساسي وضخامة المسؤولية، والأهم دائماً كان : شعوري الذي كان يكبر وينمو صوب زوجي ، وإدراكي المؤكد بأنه سيقاوم كلّ ضغوطاتهم ، وبالفعل فقد قالها رفاقه ، وظلّ القلق مع ذلك ديدني وكغطاء يلتفّ حول عظيم حبي له والذي تغلّف هنا لا لكونه ابن خالتي ، بل زوج أحببته وإنسان ذي مبدأ سعى هو ورفاقه للتضحية بكلّ شيء في سبيل ذلك .. نعم أستاذة: فخورة بزوجي ونضاله وثقي لو أعيدت التجربة لشجّعته، فمازال اعتقاله مثار فخر لنا ، وما أكّد ذلك هو ما شهده شارع بيت عمي ومحيطه لحظة إطلاق سراحه، وما تمّ بالفعل في قامشلو والحسكة على فخامة الاستقبال والترحيب به .. شكراً لكم
اللقاء منشورة في جريدة يكيتي العدد 300