قضية اللاجئين السوريين في ضوء الانعطافات السياسية
عبدالباسط سيدا
قضية اللاجئين السوريين في دول الجوار التي يجري بشأنها جدل كثير في هذه الأيام هي نتيجة مأساوية للسياسات العدوانية التي اعتمدتها سلطة بشار الأسد ضد السوريين الذين ثاروا على استبدادها وفسادها قبل أكثر من 11 عاماً، فقد لجأت تلك السلطة، ومنذ الأيام الأولى للثورة السلمية التي بدأت بالمظاهرات والاعتصامات التي شملت معظم المدن والبلدات، وشارك فيها الشباب من جميع المكونات السورية، إلى إطلاق النار على المتظاهرين، واستمرّت في ممارساتها الوحشية التي تمثلت في المجازر بحق المدنيين، والتنكيل المدروس بالناشطين السلميين، حتى فرضت العسكرة على الثورة، لتسوّغ لنفسها استخدام الصواريخ والقصف الجوي والأسلحة الكيميائية ضد المدنيين، وفتح البلاد أمام القوات الإيرانية وأذرعها من المليشيات المذهبية لتمارس القتل والتجويع والترويع بحق المدنيين تحت شعار محاربة الإرهاب.
وكانت الحصيلة إرغام أكثر من نصف الشعب السوري على النزوح الداخلي، واللجوء إلى الدول المجاورة بحثاً عن ملاذٍ آمن، الأمر الذي خفف العبء عن السلطة المعنية، وأثقل في المقابل كاهل الدول المجاورة التي استقبلت في غضون أشهر الملايين من السوريين.
وكان الاعتقاد أن مصيبة النزوح والهجرة الخارجية للسوريين لن تأخذ وقتاً طويلاً، بل ستجد طريقها إلى الحل، خصوصاً بعد تشكّل مجموعة أصدقاء الشعب السوري (نحو مائة دولة)؛ وكان في مقدورها أن تتحوّل إلى مرجعية دولية لاتخاذ إجراءات رادعة، تُلزم سلطة بشار باحترام تضحيات السورين وتطلعاتهم، ولكن المجموعة المعنية لم تُقدم على أي خطوة جادّة في سبيل مساعدة السوريين سياسياً أو عسكرياً للوصول إلى حل معقول لإنهاء معاناتهم. ومع الوقت، تبدّلت المواقف الدولية، وتغيّرت الأولويات، لا سيما بعد التدخل الروسي لصالح بشار الأسد عام 2015؛ ولم يكن ذاك التدخل بعيداً عن التفاهم مع الأميركيين في عهد الرئيس أوباما، الذي كان قد تراجع عن خطه الأحمر، ووافق على عقد صفقة السلاح الكيميائي التي أثارت، وما زالت تثير، تساؤلات كثيرة.
وبعد مرور أكثر من عقد على محنة السوريين، وفي أجواء الحرب الروسية على أوكرانيا وتبعاتها على التحرّكات والاصطفافات الإقليمية والدولية، والأوضاع الاقتصادية المتوترة في مختلف أنحاء العالم، لا سيما في أوروبا، يُلاحظ أن قضية اللاجئين السوريين باتت ورقة داخلية تستخدمها القوى السياسية، سواء في السلطة أم في المعارضة، لكسب الشعبية والأصوات الانتخابية عبر إعطاء الوعود، ودغدغة النزعات الشعبوية؛ بل واتخاذ الإجراءات الإدارية، والإقدام على بعض الممارسات بغرض فرض نوع من الضغط على اللاجئين السوريين لإرغامهم على العودة إلى بلدهم، ولكن من دون الاكتراث بالمصير الذي ينتظرهم في وطنهم. هذا ما يحصل في لبنان وتركيا على وجه التحديد، مع التقدير لما قدمه البلدان وتحمّلاه لتخفيف معاناة السوريين. أما الدول الأخرى التي استقبلت أيضاً، مشكورة، أعداداً كبيرة من اللاجئين السوريين مثل العراق (إقليم كردستان العراق) ومصر والأردن، فهي ما زالت تتحمّل العبء من دون تذمّر معلن، رغم أوضاعها الاقتصادية الصعبة.
في لبنان اليوم حملة إعلامية مركزة من الأطراف السياسية اللبنانية، تستهدف تحميل اللاجئين السوريين الذين لاذوا بلبنان هرباً من الحرب الوحشية التي أعلنتها عليهم سلطة الأسد، وأسهم فيها حزب الله، مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع في لبنان، والحديث عن مشاركة حزب الله في قتل السوريين وتجويعهم وتهجيرهم لا يدخل في التخمينات أو الاستنتاجات، بل يستند إلى قرائن ملموسة، وإلى تصريحاتٍ علنية، فدخول حزب الله إلى سورية لم يكن لحماية المراقد كما رُوّج بداية، وإنما كان لمنع حكم بشار من السقوط، وهو ما أعلن عنه حسن نصرالله بنفسه. فالتيار الوطني الحر الذي يقود اليوم حملات شرسة موجهة ضد اللاجئين السوريين، وهي حملاتٌ تؤدي إلى ممارسات عنصرية بغيضة مقيتة ضدهم على الأرض، يتجاهل أن حليفه المهيمن هو المسؤول عن محنة هؤلاء، ويحاول بكل السبل تحميل اللاجئين السوريين وزر فساد وعجز حكمه “القوي”، وتغطيته على الجرائم، وفي مقدمتها جريمة المرفأ.
أما في تركيا، فمن الواضح أن قضية اللاجئين السوريين قد أصبحت ورقة انتخابية، تستثمر فيها أغلبية أحزاب المعارضة، كما يفعل ذلك الائتلاف الحاكم أيضاً، فقد تحوّل اللاجئون السوريون إلى كبش فداء عبر تحميلهم مسؤولية تردّي الأوضاع الاقتصادية في تركيا. ومن الجدير ذكره هنا أن عدد اللاجئين السوريين (نحو ثلاثة ملايين) الذين تستضيفهم تركيا، وقدّمت لهم الكثير مشكورة، لا يمثل ضغطاً كبيراً على الدولة التركية قياساً إلى ما هو عليه الحال في لبنان والأردن مثلاً، وذلك بناء على حجمها السكاني والجغرافي، وإمكاناتها الاقتصادية. كما أن اللاجئين السوريين قد تحوّلوا بالفعل إلى قوة محرّكة في الاقتصاد التركي، سواء من جهة تأمين العمالة الرخيصة أو الاستثمار في المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وحتى في ميدان القوة الشرائية.
ولكن يبدو أن لتسليط الأضواء على هذه القضية علاقة بمتغيرات المواقف السياسية والاصطفافات الإقليمية والدولية الجديدة في ضوء الحرب الروسية على أوكرانيا، واحتمالات توافق غربي إيراني على الاتفاق النووي مع إيران، ورغبة الائتلاف الحاكم في تركيا، والرئيس أردوغان تحديداً، في تمتين العلاقات مع روسيا. هذا في حين أن الرئيس الروسي بوتين يسعى، هو الآخر، إلى الاحتفاظ بعلاقة ودية مع تركيا، بناء على أهمية دورها وموقعها الجيوسياسي، ومستقبل العلاقة مع حلف الناتو والدول الغربية.
وبالتناغم مع هذه المستجدّات كان الإعلان التركي عن الاتصالات الأمنية وحتى السياسية مع مسؤولي سلطة بشار، وكان عرض المساعدة السياسية على السلطة المعنية في جهودها للتخلص من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) على المناطق الحدودية ذات الغالبية الكردية المتاخمة لتركيا. هذا مع معرفة الأجهزة التركية المختصة بتفاصيل العلاقة بين سلطة بشار وحزب “العمال الكردستاني”، وواجهته “قسد”، فقد هيمن هذا الحزب على تلك المناطق بموجب تفاهمات واتفاقات مع السلطة المعنية، وهي تفاهماتٌ واتفاقاتٌ شملت توزيع الأدوار والمهام والثروات، خصوصاً النفطية منها، وحدّدت قواعد التعامل والتظاهر بالاختلاف. ولعل هذا ما يفسّر بواعث الرفض الروسي الإيراني في قمة طهران التي جمعت، أخيراً، بين أطراف محور أستانا – سوتشي، مقترح أردوغان حول عملية عسكرية تركية جديدة.
ولكن يبدو أنه جرى في اللقاء الذي جمع أخيراً بين الرئيسين بوتين وأردوغان في سوتشي، وضع النقاط على الحروف، إذ بدأت حزمة التصريحات حول الاتصالات بين أنقرة ودمشق، عبر قنوات مختلفة. وكان التسويغ أن الهدف منها وضع حد للإرهاب، غير أن التسريبات المختلفة تبيّن أن الموضوع أعمق وأبعد من ذلك. وهذا ما يُستشفّ من التركيز على موضوع إعادة اللاجئين، ومن دون أي حديث واضح عن الشروط والضمانات السياسية والأمنية والاقتصادية التي نصّت عليها القرارات الأممية الخاصة بالموضوع السوري. هذا في حين أن سلطة بشار الأسد ما زالت حريصة على الظهور في موقف المنتصر، وما زالت اللغة التخوينية الاستعلائية هي المهيمنة على خطابها، والكل يعلم أنه لم يكن في وسع تلك السلطة الاستمرار في مواجهة الرفض الشعبي السوري العام لها، لولا الدعمان، الإيراني والروسي، وذلك في مقابل غياب الدعم الفاعل سياسياً أو عسكرياً من مجموعة أصدقاء الشعب السوري التي اكتفت بعملية إدارة الأزمة من دون السعي إلى معالجة أسبابها.
تتجه الأنظار اليوم مجدّداً إلى الموقف الأميركي في ضوء المطالبات الصريحة من الإيرانيين والروس المطالبة بالخروج الأميركي من منطقة شرقي الفرات، فالأميركيون أفشلوا سابقاً، وبالتنسيق مع الأوروبيين، خطط الروس الخاصة بتعويم الأسد التي شملت مشاريع عودة اللاجئين، وإعادة الإعمار. ولكن الموقف الغربي تمسّك بضرورة التوصل إلى حل سياسي مقنع، قبل الانتقال إلى مرحلة إعادة الإعمار، وهو الموقف الذي حدّ من اندفاعات بعض الدول العربية التي طبّعت، أو كانت على استعداد للتطبيع، مع سلطة الأسد.
هل ستستمر أميركا في موقفها المعلن، أم أنها باتت مشغولة بأمورها الداخلية، والمتغيرات الاستراتيجية التي فرضتها الحرب الروسية على أوكرانيا من جهة، واحتمالات صيغة من المواجهة مع الصين من جهة ثانية؟ ولكن ذلك كله لا يعفي السوريين من مسؤولياتهم، فالخطوات التطبيعية مع سلطة بشار ستنعكس سلباً على مصير أجيالهم المقبلة ومستقبلهم، الأمر الذي يوجب التفكير بطريقة جديدة تتجاوز النزعة الاتكالية التي اعتمدتها المعارضة الرسمية، وهي النزعة التي جعلت من هذه المعارضة مجرد امتداد منفعل لمشاريع الآخرين وأولوياتهم. بينما كان المطلوب، وما زال، هو التركيز على الأولويات السورية.
وهذا لا يتعارض مع عملية الاستفادة من تقاطع المصالح مع مختلف الدول. ولبلوغ هذا المستوى يحتاج السوريون إلى دعم عربي مفقود اليوم بكل أسف، وذلك نتيجة انشغال كل دولة عربية بأوضاعها الداخلية وعلاقاتها المتوترة مع الدول الأخرى.
وهذا ما يلحق الضرر بالسوريين والعرب معاً، فالمشاريع التي تستهدف المنطقة كبيرة لن تقف عند حدود سورية واليمن ولبنان والعراق وحدها، بل ستمتدّ إلى الدول الأخرى، خصوصاً الخليجية منها التي ستواجه مستقبلاً تحدّيات أكبر نتيجة عدم وجود توزان معقول بين ثرواتها الضخمة وقدرتها على تحصين نفسها في مواجهة المشاريع التوسّعية التي تنذر بمزيد من الخراب والتهجير، ما لم تكن هناك صحوة حقيقية تدفع بدول المنطقة وشعوبها إلى التركيز على المستقبل، وتجاوز النزعة الماضوية التي أنهكت مجتمعاتنا بأحقادها وحروبها.
العربي الجديد