حكاية الإنسان المهاجر
نجم الدين كياض
قد أكتب وأقرأ وأتصفّح بعضاً من صفحات التاريخ والكتب والبحث عن خفاياه القاتلة والمميتة لشعوب المنطقة عامةً والكُرد خاصةً والتعمق فيه ومعرفة سر هذا العالم والكون ووجوديته والموت المنتظر وبشكل بطيء متآكلة ومتورمة مثل حالة مرضية خبيثة. ودون البحث عن ماهية السبب لهذا التآكل والبحث عن ماهية الحل لها لما نحن عليه وفيه. لهذا كان التشرد والتسكع بين أزقة وشوارع الغربة، وانتشاره في أرجاء المعمورة.
بحثاً عن الأمان والاستقرار والسلام أو لقمة العيش ليروي بطن الجائع أو المحافظة على بعض من كرامته وبعض من قيمه الإنسانية التي ورثناها عن آبائنا وأجدادنا وأمهاتنا، ربما قد لا نجد ما نبحث عنه ونحن متشردون ومنبوذون في الشتات، لأنّ بعضنا يعطي صورة مشوّهة عما كنا عليه سابقاً. والبعض الآخر يروي حكاية أمجاد أبائه كيف كنا ومن أوصلنا إلى ما نحن فيه وعليه.
ومن هنا قد أرسم لوحة تحكي حكاية الإنسان المهاجر في وسط الازدحام والضجيج وصخب الجمهور، والخراب والدمار، والحرب المدمّرة تحيط بنا من كلّ الجهات، والذي يتآكل بنيتنا الاجتماعية والفكرية والنفسية، وبشكلٍ بطيء جداً. دون إدراكنا لما حدث أو قد يحدث، وكيف ولماذا ومن السبب لما حدث لنا؟؟؟ ووووالخ .
وكنا يوماً ما وقبل النزوح والتشرد، يُحكى أنه كان هناك ذات نبضة حياة متجددة فينا وقبلة للإنسان والإنسانية، ولم نكن نتصافح إلا والابتسامة والحب والصدق والإخلاص والوفاء والكرم سرّ إخلاصنا وعنواننا لما زرعنا معاً، أو عنواناً لإنسانيتنا وقيمنا الفكرية والجمالية.
اليوم وبعد كلّ هذه الفوبيا التاريخية المدمّرة والموت البطيء والخراب والدمار. دفع كلنا ثمن تلك الفوبيا المدمّرة، مرة باسم الإنسان و (الثورة والديمقراطية) أو الحقوق المغتصبة ومرةً باسم العدالة الإنسانية، ومن هنا بعضنا يجالس المجالس ويسرد تفاصيل ألمنا وأوجاعنا وحكاية الوطن الضائع والمتمزّق والموت البطيء والأمة المقسّمة وحكاية أبنائه الشرفاء والمخلصون الذين هم نبت الأمل في إعادة الحياة من جديد نوعاً ما. وبعد الهجرة والتشرد والخراب والدمار والحروب النازفة، هناك البعض أصبح مجرد لعبة وأداة بيد قاتل الشعوب وتجّار الحروب.
هناك مَن يقتل ويدمّر من فوهة بندقيته وباسم فلسفة الأمة ويتسلّط على رقاب مَن بقي من الشعب في حضن الوطن. والبعض الآخر يدمّر ويقتل بعقلية حب الذات والأنانية الحزبية والشخصية ويسير كما القطيع، والكرامة تنزف دماً والحب بات كذبة والكذب ثقافةً والنفاق مدرسة (نضالية) يتذرّع إليها البعض باسم حقوق الإنسان، وفي نفس الوقت نجده يتسكّع بحثاً عن الأخضر والأصفر لإملاء الجيوب على حساب الشرفاء والمخلصين الفقراء، وفي طريقه قد يلتقي مع بعضٍ من إخوتنا المشرّدين ومن أبنائنا ويسأله وعيناه وما وراءه تذرف دماً، ما الجديد وهل هناك حل ومتى نعود وهل نلتقي معاً على تراب الآباء والأجداد؟؟؟
ويردّ وينظر (المناضل) بطريقة (لائقة) الوضع معقد وقد تطول أكثر من السابق، ومقابله يبكي كتائهٍ ويمضي ويحرّك رأسه إلى المجهول، ويمضي (المناضل) الآخر ويدخل محلات الأصفر ليسأل بكم نبيع ونشتري، عنده السياسة هندسة الجيب فلسةً (والمال وطناً)، والعمل النضالي تجارةً وإن فتحت الجهاز لمن يدّعي النضال، قد تجد سعر $#، ومسافة وخدمة القضية عنده بين المنزل والأصفر من المعادن والأخضر من الأوراق.
وذاك القلم الناصع والمتألّق ،يملأ الصفحات الزرقاء ألواناً من الطيف وما بين السطور يشغل بالنا ويملأ فراغنا في ليلة الظلام والقلم يبدأ بكتابة الآلام التي يعيشها كلّ متشرّد في دولة اللجوء.
والنوم يثقل كاهله والعنين والأهدب يترجل بين قوابها، وقد ينسى أخذ حبوب القلب والمميّع والمهدّئ .
ليرى نفسه في الصباح مبرداً بين أنغام وأصوات الضجيج تهالك جسده، ليرتمي في الفراش أو الخروج إلى حيث العمل، والعمر يكبر والكبر تفوح منه رائحة الشيخوخة، ولا الجسد ينسى ألم الليل وما أثقل النهار من الليل.
يتصل الابن أرسل لي، والثاني بابا اليوم مطلوب منا، والثالث اليوم عندنا، والرابعة سوف أذهب إلى …. لتسجيل.. والخامسة علينا، اليوم كورس ولازم الخ، والصغيرة تطالب بسدّ جوعها، والأم المسكينة تعرف الحكاية وهي تذرف دموعاً ما وراء حكاية الإنسان النازح أو المهاجر و … الخ. دون أن تري أحداً من أبنائها تلك الدموع … وهي ترشد برموش عينها … وتقول له كن قوياً كما كنت ولا تستسلم.. ولا تتخلّى عن مبادئك لأنك القدوة لهم ومن حولنا يحسدوننا على ما نحن عليه وفيه، بالرغم من عدم معرفتهم بحاله، لكن الأهم هم ثمرات حياته اليومية، وهؤلاء غداً يكون له كلهم سنداً، والابتسامة الكاذبة متصنّعة أرسلها لها ولمن تحيط بها، يمضي الكلّ معاً والابتسامة بين خدودهم، وكأنّ الحياة تجدّد وتعيد بناء ذاته مرة أخرى.
المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 301