السوريون الذين ينقذون أطفالهم من الحرب يفقدونهم في أوروبا.. حقائق لا بدّ من الكشف عنها…
د. محمد جمعان
– الحرب الداخلية في سوريا والتي أعلنها النظام السوري بقيادة بشار الأسد منذ عام 2011 ضدّ شعبه ، والتي تحوّلت إلى حربٍ شاملة، بين النظام والجماعات الإسلامية المتطرفة، أصبحت مع الوقت حرباً مدمّرة، شملت البشر والحجر و جميع المكونات السورية .
منذ أعوام 2014-2015 عندما هاجمت داعش المدن السورية، وبالأخص المناطق الكُردية، حينها بدأت الهجرة الجماعية من سوريا إلى تركيا والدول المجاورة الأخرى، منذ ذلك الوقت وإلى الآن، لا زالت الهجرة السورية مستمرة، من سوريا إلى تركيا والبلدان الأخرى المجاورة، والهدف هو أوروبا الغربية. هروب السوريين من ويلات الحرب إلى تركيا لم يعطهم الأمن والأمان والاستقرار، فأكمل الكثير من العوائل السورية مع أطفالهم الطريق، وحلمهم العيش في لدول الأوروبية.
ورغم أنّ أوروبا كانت حلم السوريين، لكنها لم تكن هي المكان الآمن لقسمٍ كبيرٍ مع أطفالهم؛ وبالتالي فقد زادت مشاكل الكثير من العوائل السورية الجديدة على هذه المجتمعات والثقافات، مشاكل لم يكونوا يتوقّعونها.
معاناة الهجرة والسفر :
معاناة العوائل من الهجرة من سوريا وتركها لبيوتهم وأقربائهم، نتيجةً لتلك الحروب المدمّرة لكلّ شيء، في جميع المناطق السورية، وانتهاكات حقوق الإنسان بكلّ أشكالها، والظلم اللامحدود، وكذلك الظروف الصعبة الاقتصادية و الاجتماعية في تركيا، من قلة مجالات العمل و المعاملة السيئة والفقر، كلّ هذه الظروف أثّرت بشكلٍ سلبي كبير على العلاقة العائلية، بين الرجل والمرأة، وكذلك بين الاب والام وأولادهم، فساءت العلاقة نتيجة الظروف الصعبة التي عانوها جميعاً.
وللبحث عن حياة أفضل اتّجهت العوائل من الحرب إلى الأمل المنشود في أوروبا الغربية؛ لإنقاذ أولادهم من ويلات الحرب في سوريا والظروف الصعبة في تركيا، وكانت هذه الرحلة أيضاً لها معاناة أكثر قسوةٍ، وهي ركوبهم ” البلم – السفن الصغيرة البلاستيكية ” وهي بحدّ ذاتها كانت رحلة خطيرة، واستُغلّ الكثير منهم في هذا الطريق، من كافة النواحي، المالية والاتجار بهم على يد المهرّبين وغرق الكثير من السوريين مع أطفالهم في تلك الرحلات بين تركيا واليونان ودول أخرى، وكذلك المشي على الأقدام لمسافاتٍ طويلة عبر حدود دول كثيرة مع أطفالهم، فقد عانى الكثير منهم من آثار عميقة، جسدية ونفسية وأخرى، واستُغلّوا من الجميع الذين مرّوا من خلال ديارهم في كثيرٍ من الدول.
أما مَن حالفه الحظ ونجا، ووصل شواطئ اليونان، فقد أنقِذ جسدياً، ولكن عانى من كارثة نفسية لن ينساها مدى الحياة، وبالأخص الأطفال.
وهكذا استمرّ قسم كبير في مسيرته، واستقرّ في بلدان شتى في أوروبا.
معاناة التقديم على اللجوء وآثارها المستقبلية:
بعد الوصول إلى دول أوروبا، تبدأ مرحلة صعبة أخرى للعائلة، وهي تقديمهم لأوراقهم أو تقديمهم للمعلومات عن أنفسهم كلاجئين، ولكي يتمّ قبولهم كلاجئين يضطرّ الكثيرون منهم إلى تقديم معلوماتٍ كاذبة أو تزوير الحقائق وإعطاء معلومات غير صحيحة ،عن تاريخ حياتهم – مثلاً وهذه بحد ذاتها سوف تؤرّقهم لسنوات طويلة، وتؤثّر حتى بالعلاقة الزوجية والعلاقة بين الأطفال والأهل وهكذا تبدأ مرحلة جديدة للعائلة ومعاناتها، وهي المرحلة أو المعاناة التي ستكون موضوع بحثنا، والتي ستظهر نتائج كارثية على العائلة ومستقبلها بشكلٍ عام .
أسباب بروز الخلافات في العائلة السورية:
إنّ ازدياد الخلافات الزوجية وبروزها في أوروبا، منذ البداية، تعود إلى أسباب كثيرة، منها قديمة وأخرى جديدة .
فالقديمة هي متأصّلة في المجتمع السوري، وقد تكون اجتماعية، من العادات والتقاليد البالية ،ومنها دينية .. والأسباب الحديثة والتي قد تكون سبب انفجار الخلافات ضمن العائلة، وهي وجودها الحالي ضمن أنظمة وقوانين مختلفة كلياً عمّا تعوّدوا وتربّوا عليها، وقد يفسّر كلّ فردٍ هذه الحالة بمنطقٍ يختلف عن الآخر ؛و بالتالي النتيجة تكون ضارة لجمع شمل العائلة الواحدة في المجتمع الجديد .
إنّ أسباب الخلافات ضمن العائلة يمكن أن تكون على الشكل التالي:
قد تنفجر الخلافات نتيجة أنّ العائلة كانت قد تعوّدت على تقليد موروثٍ ثقيل ،في أنّ الرجل هو الذي كان قد تحمّل عبء المسؤولية عن العائلة، ومن ضمنها الزوجة. أي أنّ الزوجة هي ملك للرجل، كأيّ شيءٍ آخر في البيت، وهنا وضمن أطار المجتمع الجديد، وهذه القوانين الجديدة والأعراف المختلفة كلياً عما تربّى عليها الزوجان؛ فإنّ هذه العلاقة تتغيّر، وإن لم يتفاهم الزوجان على العلاقة الجديدة، من أنهما شريكان متساويان في المسؤولية والواجبات، وإن لم يستطيعا الوصول إلى حلّ خلافاتهم بالحكمة والحوار، فستبدأ الخلافات، وقد تؤدّي تلك الخلافات إلى تفكيك العائلة وبشكلٍ سريع.
فور دخول قسم من العوائل إلى هذه المجتمعات الجديدة فإنّ الخلافات تنفجر بين الزوجين، حول كيفية التعامل بينهم، وحلّ الخلافات الصغيرة والكبيرة والهموم اليومية، وكيف يجب أن تُحلّ الأمور ضمن العائلة؟ وهنا الأطفال يكونون عادةً طرفاً في النقاشات والنزاع، ولهم الرأي الغالب في اتخاذ القرارات، وتبدأ مرحلة العذاب للعائلة، والتي قد لا تنتهي، وهذه العذابات تمرّ بها نسبة كبيرة من العوائل السورية وأطفالهم.
فحين وصول العائلة إلى إحدى الدول الأوروبية، وبالأخص الدول الاسكندناڤية، تبدأ النقاشات والحوارات حول كلّ الأمور، طريقة العيش، والعلاقة العائلية، والحالة الاقتصادية، والعمل والبطالة والمدرسة والخ، حيث كان الأب هو المصدر الاول والأخير للقرار باعتباره قادم من خلفية مجتمعية ذكورية، ولكن هنا وفي المجتمع الجديد، فإنّ المرأة تتمرّد ولم تعد تقبل بهكذا علاقة، حتى و إن لم تبدِ معارضتها لهذا النمط من الحياة، إلا أنّ مسؤوليهم في المجتمع الجديد، ان كان الدكتور أو الممرضين أو في الروضة أو المدرسين للكبار والصغار، فإنهم يتابعون و يراقبون كلّ شاردةٍ و واردة في حياة تلك العائلة الجديدة، وكلّ تصرفات العائلة تصبح تحت مجهرهم، و في حال ملاحظتهم لأيّ خلافٍ أو أسلوب حياة أو اعتداء ، فإنهم يتّصلون مباشرةً ب ” منظمة رعاية الأطفال ” ويبلّغون تحت اسم “رسالة مقلقة” و بمجرد اتصال هذه المنظمة بالعائلة، فإنها تبدأ بجولات وصولات مع العائلة و نادراً ما تكون لها نتائج إيجابية…
ماذا يعني دخول “منظمة رعاية الأطفال” إلى بيت أجنبي:
تتصل المنظمة المذكورة مع العائلة بعد الإبلاغ عنها، إما عن طريق المدرسة أو الروضة أو من الأطفال أنفسهم، حينما يقول الطفل أنّ الوالد أو الوالدة يضربوننا أو يسيؤون إلينا أو لمطلبٍ سخيف أو كذبة صغيرة من أحد الأطفال، قد تتطوّر إلى قضيةٍ شائكة للعائلة، وهذا يكفي بأن تتدخّل المنظمة بشكلٍ مباشر بتفاصيل حياة العائلة.
تبدأ تلك المنظمة بالتواصل مع الأطفال ومع الوالدين، كلٌّ على حدى، وتبدأ مرحلة ” المراقبة ” والتي تدوم ثلاثة أشهر كبداية، وتكون عبارة عن زيارات الموظفين إلى البيت بمواعيد متفق عليها أو زيارات مفاجئة غير متفق عليها، للتأكّد من كيفية العلاقة العائلية، وتعاملهم فيما بينهم، وبالأخص كيف يتصرّف الكبار مع الصغار، واللقاءات تكون مكثّفة مع الوالدين والأطفال..
وبهذه المرحلة تبدأ المنظمة بأخذ الموافقة من الوالدين، مضطرّين، وليس اختياري، حيث تكون مرحلة عذاب ورعب وخوف من قادم الأيام.
تجمع تلك المنظمة المعلومات من كلّ الدوائر التي تتواصل مع العائلة، وهي عادةً تكون الدوائر الحكومية التي تعمل أو تساعد العائلة، مثل طبيب العائلة، وموظفي البلدية والمعلمين والعاملين في الروضة والخ.
وبعد ثلاثة أشهر يتمّ البتّ في التقارير الواردة من تلك الدوائر، وكذلك تلك التقارير التي كتبها موظفوهم اللذين زاروا العائلة أو حقّقوا معهم، وفي حال ملاحظة أية خلافات أو حادثة، مثل مشاجرة أو اعتداء أو سوء تفاهم، وإن كان هناك ضرر واضح من ضرب أو تعذيب، فإنهم يتخذون قرارات صارمة ضد العائلة، من إبعاد الأطفال من العائلة مباشرةً.
وقد يأتي إجراء أخذ الأطفال بحجة” فشل في الرعاية” أو أنّ هناك خلافات ونقاشات ضمن العائلة وما شابه، قد تضرّ نفسياً بالأطفال، وبذلك يفصلون الأطفال عن العائلة، أي أخذ الأطفال من عائلتهم وتسليمهم إلى عوائل أخرى، وهنا قد تنفجر الخلافات الزوجية بين الأب والأم بشكلٍ أكبر، فينفصلون عن بعضهم البعض.
إنّ حالة الانفصال هذه تأتي لأسباب كثيرة منها: إنّ المنظمة نفسها تفضّل ذلك أو ترجّح وحتى قد تشجّع على هذا الانفصال وذلك لإمكانية زيارة الأطفال إلى الأم أو الأب، كلٌّ لوحده في جو هادئ ودون خلافات عائلية.
في هكذا ظروف، والحالة العائلية ، تحتدم الخلافات بين الزوجين ويتدخّل المحامون وتنتقل القضية إلى المحاكم ، وتدخل أطراف كثيرة في الدعوة، من شهود وباحثين ومختصين في مجال رعاية الأطفال والباحثين النفسانيين وما شابه ..
وفي أغلب هذه الدعاوي من هذه الحالات تقرّ تلك المحاكم الخاصة بهكذا قضايا بفصل الأطفال عن الأهل و تسكينهم عند عوائل غريبة كلياً عن العائلة. وتقرّ المحكمة بتقليل اللقاءات بين الأطفال والوالدين وحتى إن سمحت ببعض الزيارات، فهي تكون ضمن مراقبة ومتابعة مسؤولين من منظمة رعاية الأطفال. وفي بعض الأحيان يطلبون من الوالدين التكلم مع أولادهم بلغة البلد، رغم عدم اتقان الأهل لتلك اللغة.
وجرت العادة بين السوريين أن تحتدم الخلافات، فترفع الزوجة دعوة جنائية أو ما شابهها ضد زوجها بأي عملٍ اعتدائي، وحتى ممكن أن تكون التهمة مجرد تهديد من الزوج؛ فتؤدّي هذه التهمة إلى سجن الوالد.
اصعب مرحلة في حياة الأطفال:
تبدأ أصعب مرحلة في حياة الأطفال، وهي مرحلة نقلهم من عائلتهم إلى عائلة أخرى، وكذلك قد ينتقل الأطفال بين العوائل الغريبة لغةً و ثقافةً وديناً والخ، و حتى أنّ الكثيرين من هؤلاء الأطفال ينسون لغتهم الأم، و إن كان الأهل غير ملمّين باللغة الجديدة / لغة البلد، فيصبح التفاهم مع أولادهم بعد حين، صعباً – بسبب أنّ الأطفال يتعلّمون اللغة الجديدة بسرعة، وينسون لغتهم الأم، أما الاهل فلا يتعلّمونها بشكلٍ جيد ، ويصبح التفاهم بالغ الصعوبة، وتصبح الهوة بين الأهل والأطفال كبيرة مع مرور الزمن.
وهكذا تكون النتيجة، إنّ الأطفال يعيشون في مجتمعٍ جديد بعيدين عن الأهل بلغةٍ وثقافةٍ جديدتين، والوالدان منفصلان وبدون أطفال وقد يكونون مطلّقين، ولا يستطيعون أن يتأقلموا في المجتمع الجديد إلا في القشور، مع هموم ومشاكل لا تعدّ ولا تحصى، والتشرد بكلّ معانيه يكون هو سيد الموقف، لكلّ أفراد العائلة “الحالمة بحياةٍ أفضل لأطفالها”.
لا بدّ من الذكر أخيراً أنّ المسائل نسبية، أي ليست كلّ العوائل السورية معرّضة لهكذا ظروف، و كذلك لا أودّ القول إنّ كلّ عاداتنا وتقاليدنا سيئة ، حيث قد تؤدّي الى هكذا نتائج كارثية للعوائل، بل أريد القول إنّ هناك مَن لا يستطيع التأقلم مع المجتمع الجديد فتنهال عليه المصاعب والمصائب، وإنّ العيش في أوروبا ليس مليئاً بالورود …