مقعد سوريا في قمّة الجزائر هل يُشغله الائتلاف؟
مرح البقاعي\مستشارة السياسات الدولية – واشنطن .
القسم العربي في البيت الأبيض (whia) .
من نافلة القول إنّ 11 عاماً من عمر الثورة السورية الماجدة، بأحداثها الجليلة وتقلّبات طقسها المفزعة، لابدّ كافية ليتعلّم المنخرطون في الشأن السياسي السوري دروساً مفيدة للتعاطي مع الداخل من جهة، وكذا لإدارة علاقاتهم الدولية، من جهةٍ أخرى.
تكمن المعضلة في غياب “عقل للثورة”. فقد فشلت القوى السياسية السورية الناشئة في إنتاج هذا العقل. بل -و في أبسط الأحوال – لم تتمكّن من الالتفاف حول مَن يؤسّسون لقاعدة فكرية علمية ستكون مرجعاً في العمل السياسي.
لم تنجز الثورة “جون جاك روسو” سوري واحدٍ ،وإن وُجِد، فحكماً كانت قد أخفقت في الاعتراف به أوالالتفاف من حوله، لا كزعيم سياسي، بل كصاحب رؤية مستقبلية واقعية لسوريا ما بعد حرب الكلّ على أرضها، يكون قادراً على ابتكار وصياغة مبادراتٍ تخترق جدار الإهمال أو التغاضي الذي اختفت وراءه معطيات القضية السورية العادلة، حتى كادت محفّزات الدول للدفع بحلول عاجلة وملزِمة لها تكاد تتلاشى.
أما أجسام الثورة فعديدة، منها الرسمية المعترَف بها دولياً، ومنها المدنية التي تشكّلت على أيدي المجتمع المدني ومنظماته، ومنها الفطرية (من الفطر الذي لا لون له ولا طعم) وأقصد تلك التي نبتت بعجالةٍ على السطح بواسطة حفنةٍ من الدعم المالي ، وتلاشت بسرعةٍ أكبر من سرعة ظهورها فور انحسار الدعم دون أن تترك أي أثر يُذكر إلا ما شاء أن دخل جيوب القائمين عليها ، من دولارات الدول الداعمة، تلك الدول التي وجدت في المنح المالية التي تقدّمها “تعويضاً أخلاقياً” عن فشلها السياسي في إدارة الحلول الناجعة للألم السوري المستشري.
إذا افتتحنا السؤال عند المؤسسة الأولى التي يُفترض أن تمثّل أبناء الثورة، وأنها الجهة التي استثمرت فيها الدول الداعمة على مدى عقدٍ من الزمن وتعاملت معها على أنها الهيئة الرسمية الحصرية لمخاطبتها في كلّ ما يتعلّق بالشأن السوري، سياسياً وعسكرياً وإغاثياً، أقصد مؤسسة الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة، والمؤسسات المنبثقة عنه، فهل للائتلاف عقل؟
إذا جاء الجواب بنعم، فلمَ انفضّ من حوله السوريون؟ ولمَ انكفأت عنه الدول الداعمة بعد اعترافهم به في رقم قياسي – مقارنة بالثورات – وصل إلى 143 دولة عضو في الأمم المتحدة؟
وما الذي دعا إلى حالة الاستقطاب والوهن المسيطرة عليه؟
هل هو نظامه الداخلي الذي بُني على تغييب صوت شريحة واسعة منه وحصر القرار في يد مَن قادوه إلى وهنه هذا، أم هو أداءُ بعضٍ ممن توالوا على حمل مفاتيح القرار فيه – وأهمها وأكثرها خطورةً مفاتيح الإعلام والتواصل مع السوريين والعالم – فكانوا الأقل خبرة وأمانة؟ أم هي مضاربات النفوذ على الأرض السورية، وتناطح الدول على حصد المصالح، حيث بدت مؤسسات المعارضة في خضم حمأة الكبوش هذه حَمَلاً مهدور الدم في معمعة القرون السميكة المتعاركة؟!
وبالرغم من أني من أوائل مَن دعا لتأسيس الائتلاف كبديلٍ عن المجلس الوطني السوري الذي تشكّّل في نهايات العام 2011، وقد استشعرت فيه منذ البدايات هشاشة وغيابَ طاقةٍ لازمة لحمل وصية الدم السوري الثقيلة، إلا أني لم أكن – حتى اليوم – جزءاً منه. وقد تكون هذه ميزة لتقدير حاجاته وعيوبه، وأيضاً محاسنه من موقعي خارج دوائره.
ولأني أرى أنّ المثل الأمريكي الذي يقول “أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً” قد يصلح في حالنا الراهن، فمازلت أستشفّ خيراً كامناً في مؤسسة الائتلاف- خيراً لا بدّ من إعمال “العقل” لقشط زبدته.
الائتلاف هو جسم سياسي تملكه الثورة السورية والشعب، وليس ملكاً لمن ينضوي تحت مظلته الآن وماضياً ومستقبلاً. وحقيقة الأمر أنّ السوريين قد استثمروا سياسياً في هذا الجسم، والمجتمع الدولي يجد فيه جهةً للتخاطب وإدارة التفاوض، وأيضاً لصياغة الدستور إن شئتم. فما الذي يحتاجه هذا الجسم ليستعيد عافيته؟
الإصلاح السياسي لن يكون ناجعاً دون تقويم الانحراف الفصائلي الحادث، وذلك بردع السلاح الخارج عن القانون تمهيداً لجمعه – خفيفاً وثقيلاً -في يد جهةٍ رسمية واحدة يُفترض أنها وزارة الدفاع التابعة للحكومة السورية المؤقتة.
دون ترشيد الحالة العسكرية للثورة وحوكمتها ومحاسبة مَن ضلّ وضلّل هدف السلاح الذي ائتُمن عليه، لا يمكن الوصول إلى سلام نسبي يهيئ لحلول سياسية مقبولة.
هذا الأمر يحتاج بدايةً إلى تجفيف منابع التمويل القتالي المفتوحة على كلّ الاتجاهات، وإقفال “حنفية” الدعم اللوجستي الذي تتبارى على منحه جهات ودول مستفيدة من هذا الاقتتال بين إخوة السلاح، ما سيعيد كلّ مَن قاتل خارج أهداف الثورة النبيلة إلى رشد وصواب العقل.
والمسؤولية هنا تشاركية، فيد الائتلاف الواحدة لايمكنها التصفيق بمعزلٍ عن يد عربية جامعة آن الأوان أن تمتدّ بقوةٍ وحزم لوضع خاتمةٍ مقبولة للمقتلة السورية.
علينا أن نعترف بواقع مرّ في أنّ المعضلة السورية لم تعد حلولها حكراً على السوريين وحسب، وأنّ هناك جيوش أجنبية نظامية وميليشات منفلتة على الأرض السورية، وهو مايصعّب أية تسوية سياسية، مهما توفّرت الظروف المثالية لها. لكن من واجبنا أن نعمل ضمن هذه الشروط الاستثنائية وابتكار أدوات استثنائية أيضاً تتعامل مع المرحلة.
إعلان هدنة مستدامة على كامل الأراضي السورية هو نقطة البداية، الأمر الذي سيهيئ للشروع بحلّ سياسي يضمن انتقالاً سياسياً عادلاً، ومراقباً دولياً، لتنفيذ القرار الأممي رقم 2254. هذا الانتقال سيمهّد لتثبيت الهدنة وسحب السلاح من كلّ الأطراف المقاتلة على اختلاف هوياتها، وخروج الجيوش والمليشيات الأجنبية المستشرية في الجسم السوري. لايمكن تحقيق الاستقرار طالما هناك سلاح منفلت.
كما أنّ العمل على إيجاد أرضيةٍ ملائمة للثقة بين الأطراف المتصارعة وإطلاق كلّ المعتقلين في السجون السورية هو مطلب فوق تفاوضي علينا وضع المعايير والأدوات التنفيذية له لتحقيق نوع من الاستقرار السياسي يقتلغ جذور الفساد المنظّم.
فمع الطبقات الصمّاء من الفساد والقمع والتبعية للنظام السوري الحالي ، لا حلول تُجدي ، ولا استقرار يُرتجى ، ولا إعادة بناء يُعوّل عليه.
قد لا يختلف عاقلان في أنّ التقارب العربي وإزالة الخلافات بين الدول العربية – وبخاصة المؤثرة منها في الشأن السوري – سيلعب دوراً عظيماً في هذه المرحلة، ويؤثّر بشكلٍ مباشر في نزع الفتيل الفصائلي، ويدفع بسير العملية السياسية المعطّلة.، فأيّ تقاربٍ خليجي بيني من جهة، وخليجي مع الدول العربية من جهةٍأخرى، سيكون سنداً للقضية السورية، والعكس صحيح.
ولعلّ الفرصة الأقرب الآن للعمل على استعادة حضور الائتلاف و تأثيره عربياً (ولو جاء الحضور رمزياً)، تكمن في مبادرةٍ عاجلة للقيام بحملة دعمٍ دولي ليتسلّم مقعد سوريا في اجتماع الجامعة العربية القادم في العاصمة الجزائر.
المبادرة تحتاج إلى تحرّك قوى الدعم واللوبيات السورية المؤثّرة في العالم، من أجل الدفع باتجاه هكذا قرار. فهل سيبدأ عقل الثورة بالتحرّك في ديناميكية مناسبة لنرى رئيس الائتلاف يجلس على مقعد سوريا في الجزائر قريباً؟ أتساءل.