آراء

العمق المتبادل بين كردستان والعالم العربي

كفاح محمود

في خضم الحوارات والمناظرات السياسية التي أجرتها التلفزة العربية والعالمية قبل وبعد استفتاء كردستان العراق في 25 سبتمبر (أيلول) 2017، كان الخطاب الرسمي الكردي يؤكد على نقطة غاية في الأهمية، مفادها أن الاستفتاء لا يعني إعلان الاستقلال والدولة مباشرة بعد إعلان النتائج، بقدر ما هو استفتاء لأخذ رأي الشعب في العلاقة مع بغداد بعد فشل كل المحاولات لحل المشاكل مع حكومتها، وتنمر بعض القوى المتنفذة ومحاولتها تقزيم الإقليم وتجريده من مكاسبه وحقوقه الفيدرالية التي نص عليها الدستور العراقي، وهو بالتالي بداية لإجراء مفاوضات معمقة مع الحكومة الاتحادية والبرلمان قد تفضي إلى حل الإشكاليات وعدم الذهاب إلى خيار الاستقلال، ومن ضمن ما دعا إليه الخطاب الرسمي لحكومة كردستان هو أن أي مشروع لإعلان الاستقلال لن يتم إلا بالتشاور والتوافق مع بغداد، وأن دولة كردستان إن أُعلنت فستعلن من بغداد وليس من أي مكان آخر خارج العراق.

وبعيداً عما جرى من تفاصيل وردود فعل أساءت للعلاقة التاريخية بين الشعبين العربي والكردي، فإن قيادة الإقليم تصدَّت لكل محاولات جرّ كردستان والعراق إلى صراع قومي، معتمدة على مبدأ كرّسته كل القيادات والزعامات الكردية في تعاطيها مع القومية الشقيقة، ألا وهو أن العراق العربي والأمة العربية هما عمق كردستان شعباً وكياناً، إقليماً أو دولة مستقلة، وهي في ذات الوقت – أي كردستان – ستبقى عمقاً وظهيراً للعراق وللأمة العربية، وهذا ما أكدت عليه كل الزعامات الكردية بدءاً من الشيخ عبد السلام بارزاني في بدايات القرن الماضي، وحتى الملا مصطفى البارزاني الذي أكد في أكثر من مناسبة أننا والعرب شركاء في الوطن وإخوة في الدين والإنسانية، ونحن لا نقاتل العرب، بل نقاوم الظالمين والطغاة الذين يضطهدوننا نحن الاثنين.

وبالعودة إلى بدايات إعلان الاستقلال الذاتي لإقليم كردستان العراق عام 1991، إثر صدور قرار مجلس الأمن (688) الذي جعل تلك المنطقة من العراق محرمة على القوات العراقية جواً وبراً، والتي حاولت اجتياحها بعد اندلاع انتفاضة عارمة في مارس (آذار) 1991، مما أدى إلى نزوح ملايين السكان وتركهم لمدنهم وقراهم ولجوئهم إلى المناطق الجبلية الوعرة داخل تركيا وإيران والمحاذية لكردستان؛ فمنذ ذلك التاريخ انبثقت مؤسسات حكومية وتشريعية بعد أن دعت القوى السياسية إلى انتخابات عامة في يونيو (حزيران) 1992، انبثق عنها برلمان وطني، تشكلت بموجبه أول حكومة كردية تدير تلك المنطقة المحررة، وبذلك نشأ أول كيان سياسي كردي بحماية دولية، أثار في البداية حفيظة دول الجوار، لكن مؤسساته التشريعية والتنفيذية نجحت في إقناع غالبية الأطراف بإيجابية هذا الكيان ومقبوليته من تركيا وإيران وأميركا والاتحاد الأوروبي، بل تحول إلى ملجأ لكل القوى العراقية المعارضة بمختلف اتجاهاتها وحضن دافئ لكل العراقيين العرب بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم، مما أتاح لقيادة الإقليم التمدد دبلوماسياً في مساحات عربية وإسلامية وأوروبية.

وطيلة ربع القرن الأخير دأب الإقليم على تمتين علاقاته السياسية والاقتصادية مع كل من إيران وتركيا، خاصة في تسعينات القرن الماضي، لتخفيف وطأة الحصار المزدوج على الإقليم من قبل الأمم المتحدة على العراق عامة، ومن العراق على الإقليم خاصة، ناهيك عن توسيع قنوات الاتصال مع المجموعة الأوروبية والعربية للتعريف بقضية شعب كردستان ومراحل نضاله لغاية إجراء الانتخابات العامة وانبثاق مؤسساته التشريعية والتنفيذية، معتمدة في ذلك على نشاط وحركة منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية التي كان لها دور كبير خاصة في أوروبا بتمتين العلاقات مع الإقليم وتعريف الرأي العام والأحزاب السياسية في تلك الدول، سواء ما كان منها في الحكم أو في المعارضة، ونجحت إلى حد كبير باستمالة الرأي العام الأوروبي وفعالياته الاجتماعية والسياسية، لكنها لم تنتشر بتلك السرعة في الفضاء العربي؛ لأسباب كثيرة في مقدمتها علاقة تلك الدول ومصالحها مع النظام العراقي، ناهيك بالحصار الأممي المفروض على العراق وقلة وجود أو ضعف تأثير ونشاط المنظمات المدنية في معظم الدول العربية، أما مع إيران وتركيا فقد أدارت القيادة الكردية وحزباها الرئيسيان الحاكمان تلك العلاقة، مستخدمة الجانب الاقتصادي والتجاري تحديداً؛ إذ تمر معظم تجارة تركيا عبر الإقليم إلى العراق والخليج، ناهيك بكون الإقليم، سواء قبل 2003 أو بعده، سوقاً مستهلكة وكبيرة للمنتوجات الإيرانية والتركية.

بعد 2003 وتشريع الدستور العراقي الذي ضَمن فيدرالية كردستان ومؤسساتها الثلاث وقوانينها وتشريعاتها كافة، تحول الإقليم تدريجياً إلى بقعة جاذبة لمعظم الأنشطة الاقتصادية الإقليمية، خاصة في مجالات الطاقة؛ إذ بدأ الإقليم بإنتاج النفط، ومن ثم الغاز بعده بسنوات، مما ساهم في توسيع دائرة العلاقات مع دول العالم، وبالذات مع الشركات النفطية الكبرى ومع تركيا والخليج، حيث تشابكت المصالح والعلاقات التي أنتجت توقيع عشرات الاتفاقيات الاقتصادية مع تلك الدول، وخاصة تركيا ومنافذها البحرية، فقد نجحت إدارة الإقليم في كسب تركيا إلى جانبها بتوقيع مجموعة اتفاقيات مهمة بينهما، أساسها التبادل المنفعي في موضوع النفط إنتاجاً وتصديراً، خاصة بعد مد الأنبوب الاستراتيجي للنفط الذي يُعرف بأنبوب كردستان من حقوله في الإقليم إلى «ميناء جيهان» على البحر المتوسط، والذي أسس لعلاقة غاية في الأهمية بين الطرفين، وفي الجانب الآخر وبعد تطور الإنتاج، سواء في النفط أو الاكتشافات الأخيرة للغاز التي تبشر بخزين هائل قد يضع الإقليم في مواقع متقدمة عالمياً بإنتاج الغاز؛ اتسعت دائرة العلاقات وتطورت بين الإقليم والمحيط العربي والإقليمي من علاقات سياسية وتجارية بحتة إلى علاقات مصالح استراتيجية تتعلق بإنتاج وتصدير الطاقة مع دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والكويت؛ إذ أصبح الإقليم نافذتها على العراق رغم النفوذ الإيراني.

ومع تصاعد وتيرة العلاقات مع الخليج والعالم العربي ازداد القلق الإيراني كثيراً، وخاصة بعد إعلان الإقليم عن اكتشافه لاحتياطيات هائلة من الغاز والبدء بإنتاجه، مما أرعب الإيرانيين الذين يصدرون جل إنتاجهم إلى العراق استثناءً من العقوبات الأميركية، ناهيك بأن التقارب بين كردستان والعرب عموماً والخليج خاصة، يعرقل التوسع الإيراني شمالاً في العراق الذي تعتبره إيران مجالها الحيوي في صراعها مع الأميركان، مما دفع أذرعها في العراق أو في «الحرس الثوري»، لشن هجمات جوية وصاروخية على الإقليم بحجة ملاحقة مراكز مفترضة للإسرائيليين التي تنفي حكومة الإقليم نفياً قاطعاً، ومن خلال لجان تقصي حقائق عراقية، أي وجود إسرائيلي في المنطقة.

هذه الأجواء واشتعال الحرب الروسية – الأوكرانية شجعت الإقليم على تكثيف وتمتين علاقاته وزيارات مسؤوليه إلى دول الخليج، وخاصة السعودية والإمارات، وتقوية العلاقات السياسية والاقتصادية في ملفات الطاقة التي تحدث عنها رئيس حكومة الإقليم في منتدى الطاقة الدولي الذي عُقد في الإمارات، مؤكداً أن إقليمه قادر بعد تطوير حقول الغاز بالتعاون مع بغداد والشركات العالمية على تجاوز الإنتاج الحالي البالغ نصف مليار قدم مكعب إلى أضعاف هذه الكميات، مما أشاع الهلع بين الإيرانيين الذين لجأوا إلى التدخل العسكري بحجة وجود معارضين لنظامهم في كردستان تارة، وبوجود أنشطة أميركية وإسرائيلية تارة أخرى، والغاية واضحة جداً في إعاقة تقدم الإقليم وامتداداته عربياً ودولياً، وخاصة أنه نجح في تحييد تركيا اقتصادياً من خلال مدّ أنبوب كردستان الذي ينقل مئات الآلاف من البراميل النفطية إلى الأسواق العالمية عبر «ميناء جيهان»، وبذلك حقق الإقليم كتلة دبلوماسية اقتصادية أضافت لكيانه متانة أمام أي هجمة إيرانية مباشرة أو غير مباشرة، ناهيك بكونها عززت عنصر التوازن من خلال كيان إيجابي بعيد عن العسكرة ومخاطرها، مستخدماً قوة ناعمة، لكنها غاية في النفوذ والتأثير الحاد، تلك هي قوة الطاقة واستخداماتها الدفاعية والهجومية معاً التي تؤهل الإقليم لكي يكون بيضة القبان في منطقة الشرق الأوسط؛ لما يمتلكه من موقع استراتيجي وموارد مهمة في الطاقة تُعزز بناء علاقات دولية متزنة وإيجابية بعيداً عن الصراعات العسكرية والسياسية.

aawsat

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى