رحيل الصديق القديم للشعب الكُردي- يفغيني بريماكوف
د. رضوان باديني
توفي يفغيني بريماكوف رئيس الوزراء الروسي الأسبق عن عمر ناهز 86 عاما، بعد معاناة طويلة مع المرض. وبريماكوف، شخصية فذة متعددة الجوانب وخبير كبير في شؤون الشرق الأوسط والمسألة الكُردية بشكلٍ خاص. بهذه المناسبة لملمت خواطري وإنطباعاتي عن شخصيته الأكاديمية والسياسية، ومما تولد في مخيلتي عنه أثناء زيارته الأخيرة لكُردستان في أيار مايو 2008 حيث عملت مترجماً له.
أتذكر في إحدى زياراته للعاصمة الفرنسية باريس في تسعينات القرن الماضي، وفي إحدى لقاءاته مع الصحافة الفرنسية تحدث بريماكوف عن دوره في المفاوضات بين النظام العراقي السابق وبين المجتمع الدولي قبيل حرب الخليج الأولى.. وفي سؤال لصحفية فرنسية من قناة فرانس 2 حول جرائم صدام ضد الكُرد، قال آنئذٍ، بما معناه: “صدام ضعيف الآن ويمكن للكورد أن يحققوا مكاسباً كثيرة إذا دخلوا في حوار معه”! وأتذكر أنني كنت ممتعضاً جداً من جوابه هذا حول أسباب عدم قبول قادة كُرد العراق آنئذٍ دعوة صدام حسين بإستمرار المفاوضات مع نظامه. وأتذكر أنني ألتقيت وقتها مع الصحفية الفرنسية وزودتها بمعلومات عن خلفية الرجل الأكاديمية ومعرفته الجيدة بالمسألة الكُردية..وعبرت لها عن إستيائي لموقفه ولطلبه من الكُرد أن يستمروا في المفاوضات مع النظام وبالأخص بعد الهجرة المليونية المعروفة، حيث كان من الصعب على المرء أن يتخييّل مصالحة ما بين النظام والكُرد.
وفي أيار (مايو) 2008 وفي أول زيارة له لكُردستان العراق بعد إعلان الفدرالية، وكان آنئذٍ رئيساً لغرفة الصناعة والتجارة الروسية، شاءت الأقدار أن ألتقي بالرجل كمترجم بينه وبين القيادة الكُردية. ولا أخفي عليكم بأن، ملامح الصحفية الفرنسية تلك الأثناء، كانت لا تبارح مخيلتي طوال الفترة التي رافقته، وكلماتها تدوي في خلدي: “آه لو كنت أعرف حول علاقاته التاريخية القديمة مع الكُرد وتهربه من واجبه بالدفاع عن حقهم.. لكنت أسوطه بأسئلتي!!.. فبدل شجب جرائم صدام ضدهم.. كان يدعوهم للحوار معه!!؟؟..آه لوكنت أعرف ذلك لكنت أحرقه بأسئلتي..!!”- هكذا كانت الصحفية الفرنسية تعبر عن أسفها من عدم معرفتها بخلفية بريماكوف السياسية والعلمية سابقاً.
لهذا، أني أعرف مسبقاً، بأن عدد غير قليل من القراء الكُرد سوف لن يتفقوا معي على تسمية هذا السياسي الروسي الكبير والدبلوماسي الكارزمي العريق والمخضرم، بـ”صديق الكُرد”- العنوان الذي أخترته لهذا النعي والإستذكار. ثم أن العديد من الوطنيين الكُرد ومعهم المراقبين السياسيين في كل العالم يتذكرون “دور بريماكوف” في رفع يد روسيا عن أوجلان للخروج من روسيا..وتركه لمصيره! وبالتأكيد هناك أسباب أخرى كثيرة لا يتسع الوقت هنا بتعدادها، لكي نحيط بكل تفاصيل تاريخ العلاقات الكُردية الروسية من غموض وعدم تكلّلها ولا في أية فترة بنتائج إيجابية للكُرد، و أنها كانت على الدوام وعلى مدى أكثر من قرنين في صالح روسيا بوحدها! وحتى “مقاطعة كُردستان الحمراء” التي تأسست في بداية عهد الدولة السوفيتية لم يحافظ عليها الروس ولم تدوم سوى سنوات معدودة.(راجع مقالنا بالفرنسية، في الإنترنيت ” الكُرد في جيوبوليتيكا الروسية”- وبالعربية في مقدمة كتابنا: ” كوردستان- روسيا: ملاحظات دبلوماسي كوردي”، مطبعة بيريز، دهوك 2005 ص:5-18 ). وهذه السوداوية التي توشح بها معظم العلاقات الروسية الكُردية التاريخية ، تضاف لحقيقة أن الكُرد لم يجدوا في عهد بريماكوف موقفاً علنياً واحداً حاسماً للسياسة الروسية تجاه الكُرد من شأنه تغييّر مجرى القضية وتحقيق نتائج إيجابية ملموسة أو إنجازٍ رسمي كبير.
والآن وبعد هذه الإستفاضة في الحجج السلبية ستسألونني ماذا بقي كمبرر للدفاع عن بريماكوف وإعتباره “صديقاً للشعب الكُردي”!؟ وهنا أقول وبكل صراحة أننا سنظلم الرجل إذا إنطلقنا من تحديد “صداقته للكُرد” بالإنجازات فقط ومن وجهة نظر شكلية محضة، وما لم نحيط بالأسباب الموضوعية السائدة آنذاك!. ثم يجب أن نتسائل في هذا السياق ايضاً: لماذا لم يتمكن هذا الرجل، الذي تبوأ أعلى درجات المسؤولية في بلده (رئيس شعبة المخابرات الخارجية، وزير الخارجية، ورئيس الوزراء.. وقبلها تبوأ عدة مناصب إستشارية وأكاديمية مفتاحية لسياسة روسيا الإتحادية..) من تحقيق إنجاز عملي سياسي للكُرد طيلة فترة إدعائه بـ”صداقته” لهم؟ ولماذا كان لا يخفي تعاطفه مع الكُرد ويدلي بها صراحةً؟ هل كان صادقاً بهذا الإدعاء؟ وما هي مصلحته في ذلك؟
أعتقد، أن بريماكوف لم يتمكن من العمل وفق مشيئته ورغبته أو ميوله وعاطفته، بل كان مضطراً للعمل وفق ما كان يفرضه منطق العلاقات الخارجية ومصلحة روسيا العظمى “الشكلية”، ووفق الفهم الجديد لموقع روسيا في السياسة الدولة وما فرضه “الريالبوليتيك” في الظروف الجديدة..ثم أنه لم يكن روسي النسب ليعتمد على رصيد شعبي أو رأي شريحة إجتماعية بعينها لإستمالة التيارات القومية الروسية لموقفه.. ثم بالإضافة لهذا وذاك أنه لم يكن طليق اليد!! أي أنه كان محكوماً بالعمل وفق أطر ورؤية فريق من “الحرس القديم” في العهد الذي عرف بـ (الركود التام Застой)؛ ووفق “النمطية البيروقراطية” في إدارة الدولة والتقييّد بالحد الأقصى لسياسة تفادي الخلاف مع الغرب، وفي مختلف أوجه السياسة الخارجية- أي تلك السياسة التي أودت بروسيا في الوقوع في “الجمود المثبط” وأرغمتها بتبني سياسة الخنوع والتابعية للغرب. والتمسك الشكلي بموقفها “المساير” لما عرفته سابقاً.
هذه ليست تبريرات ذاتية إنما تبسيط لشرح الأسباب الموضوعية التي لفت كل مفاصل وفقرات السياسة الداخلية والخارجية لروسيا الإتحادية ما بعد آخر محاولات “إعادة تأهيل” النظام السوفيتي- البروسترويكا.
وأخيراً هذه قراءتي لموقف الرجل، وإستنتاجاتي على إهتماماته وكتاباته ومواقفه. لقد شعرت بأن زيارته الأخيرة تلك (مايو 2008) كانت بمثابة “حج” للبلاد التي أحبها. ففي ترحاله وتجواله في كوردستان لم يتوقف عن طرح الأسئلته والإستفسارات، عن كل شيئ وأينما تقع رؤيته ولا يتوقف عن إبداء الإعجاب والمحبة بما يشاهده ويراه. بدءاً بالطرقات والأشجار والناس والأبنية وإنتهاءاً باللباس والطعام..كنت بجانبه وكنت أشعر بأن الرجل يريد الخير لهذا البلد الذي زاره حينما كان شاباً يافعاً وهاهو العجوز جاء ليتحقق من بقائه وإزدهاره!
ففي عام 1962 أصبح بريماكوف مراقبا سياسيا يعمل في صحيفة “برافدا” السوفيتية في قسم آسيا وإفريقيا. وابتداء من عام1965 أصبح مراسلاً خاصا للصحيفة في منطقة الشرق الأوسط.. وقد زار بتلك الصفة كُردستان العراق مرات كثيرة. وكلفته اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفيتي بتنفيذ مهام خاصة فيما يتعلق باقامة علاقات مع قائد الثوار الكُرد الجنرال مصطفى البرزاني وحمله على التقارب مع بغداد. لذلك لا أعتبر نفسي المكتشف الأول لميله وعاطفته على الكُرد وحركتهم التحررية. فقد ورد في الويكيبيديا عنه بأنه:” لقد اراد الاتحاد السوفيتي احلال السلام في العراق، كما انه كان يعطف على الكفاح التحرري للاكراد”.
لقد كان شديد الإعجاب بالشخصية الكُردية والعادات والتقاليد الشعبية والمرأة الكُردية وبالأخص باللباس الكُردي الفولكلوري الذي أصرّ على لبسه في مقابلته مع القادة الكُرد برغبته وإرادته المحضة أثناء هذه الزيارة، ولا أعتقد أن ذلك يخطر ببال أي رئيس وزراء دولة عظمى أخرى بحجم روسيا.
في 17 أيار (مايو الماضي) أي قبل أكثر من شهر بقليل، حضر وفداً أكاديمياً ودبلوماسياً كبيراً، برأسة ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي لأربيل لتقديم كتاب “ذهبي” حقيقي، وبأهمية إستثنائية: “كُردستان: أرض الأساطير”. وقد أشاد المشاركون جميعهم وبدون إستثناء بالدور الكبير الذي لعبه يفغيني بريماكوف في إصدار هذا الكتاب القيم، والذي لم يتمكن بنفسه الحضور بسبب المرض. وهذا الكتاب يضم التعريف بمجموعة هائلة من المستشرقين الروس على مدى أكثر من 150 عاماً ونبذة وخلاصة عن أعمالهم. وقد حي الجمهور بتحية خاصة أثناء قراءة المقدمة القصيرة التي كتبها بريماكوف لهذا الكتاب القيم.