الحركات الراديكالية.. وتأثيرها في الشرق الأوسط
دوران ملكي
الراديكالية السياسية هي توجُّه سياسي يسعى إلى تحقيق تغييرات جذرية وشاملة في النظام السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي، وتطالب بتغييرات جوهرية تجاه الهياكل القائمة، وقد تكون مصاحبة لمستويات عالية من النشاط الاجتماعي والسياسي، وتتبنّى في كثيرٍ من الأحيان مواقف متطرفة، وقد تستخدم وسائل غير تقليدية لتحقيق أهدافها، وتبذل قصارى جهدها لاختلاق الظروف التي تخدم استراتيجياتها، وتستخدم كمادةٍ لها الفئات الاجتماعية الدونية ؛ والتي تُمثّل غالبية المجتمع، وبما أنها معارضة لكلّ ما هو موجود من نظم وقيم ومبادئ فلا تجد على الأغلب من يشاطرها الرأي، ولا تستطيع بناء كيان اقتصادي نظيف، لذلك تلجأ إلى الاستعانة بالطرق الملتوية وغير المشروعة لبناء إمكاناتها الاقتصادية، كالتجارة بالممنوعات وتبييض الأموال والخطف والضرائب الجائرة في أماكن سيطرتها.
لضمان الاستمرارية تقوم بتسريع الأحداث وحرق المراحل ، فتلجأ إلى الديماغوجية والميكافيلية، وتزداد حدة البيروقراطية في إداراتها ؛ مما يحوّلها من حركة ذات هدف سياسي أو اجتماعي إلى حركة تبحث عن الاستمرارية، وبذلك تتحوّل من أداة فاعلة إلى أداة مفتعَلة بيد القوى الكبرى والدول ذات الشأن في الشرق الأوسط والتي تتحكّم في المعادلات السياسية والاقتصادية، وبذلك تنسى ذاتها والأهداف التي وجدت من أجلها.
توجد الراديكالية في الشرق الأوسط بشكلين رئيسيين هما: الدينية والقومية، حيث تستخدمها الحركات كمادة رئيسية في شعاراتها البنيوية، وتسوّقها لتحقيق أغراض أخرى
الحركات الراديكالية الدينية كنموذج في الشرق الأوسط استغلّت الدين الإسلامي لخدمة أهدافٍ عميقة لجأت إليها الشعوب (العربية والفارسية والتركية) منذ القدم وإلى الآن، وأحيت صراعات قديمة قدم التاريخ. فهناك اليوم من يعدُّ ضربات الخنجر على قميص عثمان، وهناك من يعدّ نقاط دم الحسين بين الكوفة ودمشق، والغاية منها ليس دفاعاً ولا انتقاماً، وإنما استغلالاً من قبل الراديكالية لدفع أكبر قدرٍ من الشعب المظلوم والمقهور والضائع في متاهات الحياة القاسية، وسوقهم نحو التضحية بالذات ، والتي أثبت حديثاً بأن الإنسان أقوى سلاح وجد حتى الآن خدمة لأغراضهم القومية، ويريدون من التاريخ أن يعيد نفسه كما كانوا.إمبراطوريات وحكم خلافة، فالعقلية الشوفينية العربية التي تجدُ في فترة الخلافة الإسلامية عصراً ذهبياً تحاول الرجوع إليها واستغلال الدين الإسلامي ذي التوجهات السنية، فتولّدت اليوم الحركات السنية في سوريا كحركة أحرار الشام وجبهة النصرة وداعش، وفي فلسطين حركة حماس والجهاد الإسلامي، وطرحتا نفسيهما كبديل لمنظمة التحرير الفلسطينية بدلاً من التوافق والعمل المشترك، وتحذو حذوها الطورانية التركية، فمنذ عهد انحطاط الخلافة الإسلامية استغلّوا حب الناس للإسلام، وبنوا أكبر إمبراطورية في الشرق، وتمدّدت غرباً لتشمل قسماً من أوروبا الشرقية والقرن الأفريقي وإلى الآن يستغلّون الدين الإسلامي، فبنوا أحزاباً راديكالية مثل حزب العدالة والتنمية وحزب الفضيلة والسعادة، وبالتعاون مع حلفائها من أحزاب الإخوان المسلمين في الدول العربية يحاولون إحداث قلق في المنطقة والتمدُّد فيها طمعاً في إحياء الماضي، وما يقوم به الرئيس التركي خليفة أرطغرل في سوريا والعراق وإحداث قلق وفرض حالة حرب في المنطقة ليس إلا دليلاً على هذه الظاهرة.
بالمقابل استولت الحركة الراديكالية الإسلامية التي تتبنّى المذهب الشيعي في إيران وأسست الجمهورية
الإسلامية، ورفعت شعار تصدير الثورة إلى الدول الإسلامية الأخرى، وفي حقيقة الأمر لإحياء الإمبراطورية الفارسية التي كانت تحكم الشرق، والدليل المطلق على ذلك هو أنّ الحسن والحسين أولاد علي بن أبي طالب قُتِلا على أيدي السنة، ولكن لا وجود للحسن وذريته في الثقافة الشيعية، ويركزون على الحسين لأنّ الحسين بعد معركة القادسية تزوّج بابنة كسرى ملك الفرس، وأنجبت له علي زين العابدين ، وهم يتباكون على نسل كسرى على أنهم الورثة الشرعيون لحكم المسلمين، وتولّد من نهجهم حزب الله وحركة أمل في لبنان والحركات الراديكالية الشيعية في العراق والخليج واليمن والتي جميعها سبّبت المآسي لشعوب المنطقة، وأحدثت حالة قلق وحروب دموية قل نظيرها.
الراديكالية القومية أيضاً تسعى إلى استغلال القومية والعرق كمادة أيديولوجية في منطلقاتها النظرية، ودمجتها مع النظريات الإيدولوجية في العالم وخاصةً في فترة الحرب الباردة بين المنظومتين المتصارعتين ، مما أدّى إلى استغلال الفئات المسحوقة من المجتمع، ودفعها إلى التضحية المزدوجة، القومية والطبقية، وكانت التضحية كثيرة والإنتاج قليل وتراجعت بسبب سقوط المنظومة الاشتراكية، واهتزّت أركانها، وأصبحت عرضة للاستغلال السياسي من قبل الدول ذات الشأن في الشرق الأوسط ، وكضمان لاستمراريتها قامت بتغيير ألوانها مرات عدة، فرفعت شعارات السلام ووحدة الأمم والبحث اليومي في بقايا الكتب العالمية التي تباع على الأرصفة عن مصطلحات جديدة لا يعرفها الشعب البسيط والذي لا تتعدّى آفاقه سوى البحث عن لقمة العيش، واليوم يقومون بأعمالٍ لم تكن معهودة وإنما اكتسبها من المحيط الراديكالي الإقليمي المتطرف كأحد الخيارات في إحداث قلق في المحيط في الوقت الذي كان يحمل السلاح بهدف الدفاع عن النفس والحفاظ على الذات القومية؛ مما دفع بالدول المتنفذة إلى استغلال هذا الهيجان والطاقة خدمةً لمصالحهم، وتحوّلوا بذلك من مناضلين إلى فرسان تحت الطلب لمن يدفع أكثر وأصبحت القضية في خبر كان.
الراديكالية بأنواعها لم تجلب للمنطقة سوى الدمار والتشرد والجوع وحالة عدم الاستقرار، وبسبب فرضها لنفسها كحالة أمر واقع تراجع الشرق الأوسط سياسياً وفكرياً وحتى إنسانياً، ناهيك عن الاقتصاد والثقافة فهي بذلك خدمت الدكتاتوريات التي حاربتها شعوب المنطقة، وبيّضت وجوههم بأفعالها اللاإنسانية وغير المتزنة، ودمّّرت أماني شعوبها في تحقيق حياةٍ أفضل.