الغربة والحنين
بنار وليد حاج عبد القادر/سويسرا
لو كانت الغربة لحناً ، لكانت من أكثر الألحان شجناً وألماً .
الغربة بالنسبة لأي إنسان كان وبالخصوص للمرأة ، رغم اعتيادها عليها ، وفي الواقع ووفق طبيعة الحياة والمجتمعات فإنّ الفتاة بشكلٍ خاص ومع ولادتها يتمّ تهيئتها لتغترب عن أهلها وناسها ؛ وربما حتى مجتمعها ، ولهذا كنت أسمع أحياناً قبل هجرتنا لابل ومنذ الصغر بأنّ خاصة الفتيات ذلك المثل الكُردي ( كج لينكك سر عردا و يك سر هسبا ) ، وفي عصرنا هذا ، وعلى رغم كل هذه التكنولوجيا ووسائل التواصل ، وفي الموضوع الذي أحبّ أن اطرحه عن الهجرة خاصةً ما يشبه منه الرحيل الأبدي ، سأكون صادقةً في كلماتي ولن تسعفني أبداً كلمات التبرير ، جميعنا ندرك بأنه انسلاخٌ يشبه الموت البطيء ، وإن كانت فيها مسكّنات قد تضع حداً لأوجاع الحياة ، ولكنها فكرة معقدة التركيب ومتعددة المراحل ( يتعلّم المرء في كلّ جزء من أجزائها درس أو دروساً تجعله أكثر خبرةً في هذه الدنيا ) . منذ أول يومٍ في الغربة يحاول الإنسان فيها أن يكّون صورة جديدة ومختلفة عن نمط الحياة التي كان يعيشها ، نعم صورة مختلفة وسيصرف كثيراً من الجهد والوقت ليتواءم مع المرحلة الجديدة التي كان يتصوّرها قبل المجيء واعتقد أنه سيعيشها . وقد يصدف أن يتحقّق ذلك أو لن يتحقّق . وفي حالات أخرى : يتحمّس المرء أحياناً ويشعر بالخيبة أحياناً آُخرى . حيث تمرّ عليه أوقات يقول فيها: ياليتني ما هاجرت ، وبقيت بين أهلي وأحبتي ، فها هي اللحظة الصعبة ؛ كم أحتاجهم … كم أشتاق لضحكاتهم كم أشتاق لكلامهم وأصواتهم ….كم أشتاق وأشتاق ….
وبالرغم من الطمأنينة في سبل الحياة والمعيشة ، كما ومستقبل الأطفال والصحة ووو ، إلا أنه الوطن و .. كلنا يعلم ماذا يعني والمجتمع والناس واللغة.. وهناك لحظات صعبة ومواقف قاسية تمرّ على الإنسان في بعض الأوقات فيحتار ولا يعرف كيف يتصرّف أو ماذا يفعل …وهي هنا اللحظات التي يشعر فيها المرء كم هو بحاجة إلى استشارة الأب وحنان الأم أو نصيحة الأخت أو حماية الأخ .. فتبدأ عملية البحث اللاشعوري هنا وهناك لكن للأسف لا أحد هنا..
ولعلّ أكبر معاناةٍ للمرأة في الغربة تكمن هو الفراغ النفسي، لا سيما في تلك البيئة الغريبة حيث يكون زوجها مشغول بالعمل، والأولاد بالمدرسة، فتظلّ المرأة قعيدة البيت وحيدة .. والمعاناة الثانية هي الفراغ الاجتماعي حيث لا أهل ولا أصدقاء ، فتشعر المرأة بفقدان الانتماء إلى المكان . والمعاناة الأكبر تكمن عندما تكون المرأة أماً. فمعنى أن تكون المرأة أماً بالغربة (( تعني أن تمرضي ولا تجدي أحداً يتحمّل مسؤولية الأطفال ، يجب أن تكوني قوية وتتحملي المرض دون أن يشعر بك أحد ، ويعني أن تعتمدي على نفسك من الألف إلى الياء ..وأن تتحمّلي طاقاتٍ لم يتحمّلها أحد ، وأن تبحثي دائماً عن نصيحة من الفيسبوك أو صفحات كوكل لتعرفي كيف تربّين طفلك، وتحافظين عليه ، وأن تفرحي بتفاصيله لوحدك، وتبكي وحدتك لوحدك .. وقضية جداً مهمة .. كانت نصيحة أمي “كوني كالسنديانة، تمسّكي بأصولك”. وابي ” إياكي وانتمائك .
وكنت حين الهجرة أما لطفلٍ، وهو هشيار وابنتي جين، وفي كلّ تواصل مع أبي وأمي كان ذات الإصرار : لغتك الأم ..حافظي وعلّمي أولادك اللغة الكُردية .. ولكن هل سأستطيع تحدي اللغات الرسمية والمحيط ؟ بالتأكيد لا ؟ قد نستمر نسق الآباء والأمهات من الصمود ، أما جيل الأولاد فهذا يذكّرنا بعائلة صديقة كانت لجدي ،والد والدي، من أكراد دمشق القدماء وحسرتهم على فقدان لغتهم الأم لأبل وتاريخهم.. نعم ولعلّ السؤال الأهم هنا : لو أنّ النظام السوري عامل أسرتي معاملة المواطنة، ولم يرفض الأمن السياسي حقي وزوجي في العمل بأية وظيفة لأنّ ابي معتقل سياسي ، أؤكّد جازمةً بأنني ما كنت سأفكّر بها أنا وزوجي ، وكنا سنختار مثل والدي الذي رفض حينها فكرةالهجرة إلى اوروبا ، رغم سهولتها ، واختار الخليج للعمل بدلاً من ذلك بعد فصله من وظيفته