المخاض العثماني وانهيار الدولة.. بداية تمهيدية لتطبيق اتفاق سايكس – بيكو1
وليد حاج عبدالقادر / دبي
القسم ٧
( حقيقة تكوين دولة العراق من ولايتي البصرة وبغداد فقط )
في الأقسام السابقة تناولنا وبإسهاب مآلات الإمبراطورية العثمانية ككلٍّ ومساعي التفتيت وحجم كما وتداخل المخططات وتناقضاتها وفق مصالح الدول المنخرطة في النزاع ، وراينا آليات توزّع الكعكة ، ولكن ! وفي واقع الحال في هذه المرحلة المصيرية وعلى الأرض سواءً بالتقاصّ مع المخططات والخرائط كما التفاهمات والتقاطعات ومعها العديد من المشاريع والخرائط التي وصعت وسبل التقاسم البيني ، إلا أنّ الانتشار والتواجد العسكري للدول المنخرطة وقربها من المناطق التي تهيئ للتقاسم ، من الطبيعي ان تضغط بشكلٍ أو بآخر في طبيعة القسم والتقاسم ، وعليه : فقد كانت للنجاحات التي حقّقها جيش دجلة قبل ذلك بفترة ، وقابلها وقتها موقف من حكومة الهند يناقض موقفها بعدم إلزام نفسها ، إلا أنها كانت قد وضعت نصب عينيها أن تكون ولايتا البصرة وبغداد ضمن إطار نفوذها إن فصلت عن الإمبراطورية العثماني ، في حين أنّ مارك سايكس وزملاءه في المكتب العربي بالقاهرة فقد رأوا بأنّ إدارة هذه المنطقة بذات أسلوب إدارة الهند الأبوي يعدّ أمراً كارثياً ومخيفاً ، ولهذه الأسباب وجّه سايكس مذكرة إلى حكومته عام ١٩١٦ يحذّر من مخاطر ترك العمل للهند فإنه سيؤدّي الى مخاطر كثيرة ، منوّها الى صعوبة فرض حكم على العرب شبيه بنهج السود والبيض ١ ، ولكن ! عملياً تبيّن بأنّ النجاحات التي حقّقها جيش دجلة قد أوجدت أرضية لرؤية جديدة، ووجب معه طرح سؤال يمكن اختزاله بكلمة ماالعمل ؟ وتحديداً ما يستوجب فعله بتلك الولايات العثمانية التي استولى عليها هذا الجيش بالتوافق مع رغبة حكومة الهند وعلى طول الوقت بأن تكون ولايتا البصرة وبغداد ضمن نفوذها فيما لو انسلختا عن الإمبراطورية العثمانية ، في حين أنّ مارك سايكس وزملاءه في المكتب العربي ، فكانوا يرون أنّ مجرد التفكير بإدارة هاتين المنطقتين بذات أسلوب حكومة الهند أمراً مرعباً وقد وجّه لهذا السبب رسالة الى مجلس الوزراء البريطاني عام ١٩١٦ محذراً وبشدة على كارثية ذلك ٢ . وبتاريخ ٦ آذار من عام ١٩١٧ أنشاً مجلس الوزراء الحربي لجنة إدارية لبلاد الرافدين وجعلت على سلم مهامها أن تقرّر شكل الحكومة التي ستتشكّل في الولايتين اللتين تمّ الاستيلاء عليهما ، وكان قرار اللجنة أن تصبح ولاية البصرة بريطانية لا هندية – بريطانية ، اما ولاية بغداد فيتوجّب أن تنضمّ إلى كيان سياسي عربي تخضع ، أو كياناً عربياً سياسياً خاضعاً لحماية بريطانية ، وفي الحال هذه يجب سحب الأشخاص الهنود من الولايتين المحتلتين ٢ ، وفي ذات التوقيت كان الجنرال البريطاني مود قد أبرق الى رؤسائه ليخبرهم ( ان الظروف المحلية لا تسمح باستخدام أحد في مواقع المسؤولية سوى ضباط بريطانيين ذوي كفاءة في التعامل مع السلطات العسكرية ومع شعب البلاد ، وقبل ايجاد أية واجهة عربية حقيقية للكيان ، يبدو أنّ أمراً جوهرياً لإرساء أسس القانون قد اتخذ ولكن بان منه بأنّ لندن إما أنها غير مدركة لحالة العراق أو لم تبالِ بمكونات ولايتي بلاد الرافدين – البصرة وبغداد – ٣ ، وبالتالي ظهور مشكلة أخرى تحت مسمى وضع كُردستان والأكراد ، والتي عرفت بأزمة الموصل واستمرّت في تأزمها وما أجّجها أكثر هو تدفق البترول في محيط كركوك ، فكانت سلة المخططات التي أصبحت تتداول وكان أشهرها تصفيات ( استفتاء سنة ١٩٢٥ ) والتفاهمات التي أفرزتها نتائج هذا الاستفتاء ومخرجاتها وما شكّلته هذه التناقضات الخرائطية من جهة ، وكذلك الكم الكبير من البغض الذي ساد بين الأقلية السنية المسلمة والأغلبية الشيعية كما والتنافس بين القبائل والعشائر ، والانقسامات التاريخية والجغرافية بين الولايتين وكذلك سيطرة الجالية اليهودية تجارياً في بغداد المدينة ، هذه الأمور كلها من الطبيعي أن تصعّب الأمور وتعرقل نية تشكيل حكومة واحدة تكون ذي ثقة تمثيلية وبفعالية تحظى بتأييد واسع ٤ . وهنا علي أن أشير إلى نقطة جد هامة ومركزية وأعني بها موضوعة اية فئة اكثرية أو دونها ، وبشكل خاص حتى إن لم يكونوا فعلاً كذلك ولكن كان لليهود السيطرة على مفاصل بغداد اقتصادياً الى جانب مدينة القدس ، واللتين كانتا تعدان من المدينتين الكبيرتين والمهمتين في ذات الوقت بقارة آسيا ، وكان يستقر فيه الحاخام الاكبر أي رئيس الديانة اليهودية في الشتات الشرقي ، أي عاصمة اليهودية الشرقية ، وللعلم فإنّ اليهود قد عاشوا وبعدد كبير في بلد الرافدين منذ السبي البابلي وذلك قبل الميلاد ب ٦٠٠ سنة ، وبمعنى أوضح فهم وجدوا في هذه البقاع قبل مجيء العرب سنة ٦٣٤ ميلادية ٥ . وفي العودة إلى دمشق ومآلاتها من جهة ومما امتازت بها من أهمية حتى من بغداد والقدس على مرّ العصور ، حيث يعتقد بأنها أقدم مدينة استمرّت مأهولة ، وإن كانت أصولها قد تاهت مع عجاج التاريخ ، ودمشق الحالية كانت في الأصل مدينة وسط واحة ونمت وتطوّرت قبل أن يسكنها يهود أو عرب مسلمون أو مسيحيون . بريطانيون أو ألمان ، وكانت بريطانيا تدرك بأن الاستيلاء على دمشق له اكثر من دلالة رمزية من شأنها كمثال أن يبين وبوضوح ليس فقط احتلالها للأجزاء الناطقة بالعربية من العثمانيين بقدر ما يضمن مكانة بريطانية في جدول التعاقب الشرعي لفاتحي العالم القدامى الذين ختموا انتصاراتهم بتحقيقهم السيطرة على واحات سوريا ٦ . وفي العودة وباختصار الى ترتيبات الثورة فقد اختير علم للقومية العربية من تصميم بريطاني وكان ينبيء بمسألة دقيقة في ذات الوقت التي كانت جيوش اللنبي تستعد للزحف على دمشق ، وهذه المسألة توحي بواحدة من أمرين : مدى إخلاص أو نفاق المسؤولين البريطانيين وبالأخص منهم الذين كان الدور الأبرز في صياغة السياسات المتعلقة بالشرق الأوسط وتبنيهم لقضايا مختلفة كان يعتقد بانهم آمنوا بها ٧ .
ومع كلّ هذه الهيمنة ، فقد وجدت قضايا خلافية واعتراضات قوية للعرب من خلال جمعياتهم وكمثال فقد رفض العرب من خلال جمعياتهم أن تحكمهم طوائف غير مسلمة ، وقد جاء ما يذكر ذلك مطلع عام ١٩١٨ ضمن الحقيبة الديبلوماسية المرسلة من مدريد، حيث التقى السفير البريطاني مع عزيز المصري زعيم واحدة من الجمعيات السرية وأكّد السفير بأنه تلقّى من المصري اقتراحاً للإطاحة بحكومة انور وطلعت في القسطنطينية على أن يعاد تنظيم الإمبراطورية العثمانية على ( قاعدة الفيدرالية وأن يعرض الحكم الذاتي على العرب وغيرهم ) ويلي ذلك التوفيق بين ( الإمبراطورية العثمانية المعادة هيكليتها والدول الحليفة ) ٨ ،
وكان عزيز المصري ذاته قد قال بأنه سبق أن ردّد هذا الكلام مراراً لكلايتون ! ولكن يبدو أن كلايتون قد فهم بأنّ من يتحدّث كلايتون بإسمهم يقبلون أن يستمرّ حكم الباب العالي التركي ويرفضون أن يحكمهم المندوب البريطاني المقيم ، وأنّ الشيء الذي كان يفترضه كلايتون – أي أن يكون الشرق الأوسط محمية بريطانية ، وهو ما أشار المصري إلى أنه غير مقبول إطلاقاً ٩ .
وفي العودة إلى ترتيبات إعلان الثورة انطلاقاً من الحجاز وما كان يعدّ داخل أسوار دور الشريف حسين وبالتحديد نجله فيصل ومساهمته في نجاحات الحلفاء ، وفي واقع الحال فإنّ هذا السؤال لم يزل وحتى الآن من دون جواب ، ولكنه في ذات الوقت أثار سؤالاً مركزياً وهاماً ؟ هل تدعم بريطانيا الشريف حسين وفيصل ضد الزعامة العربية السورية والذين هم أهل البلاد الأصلاء ؟ وهل تؤيّد بريطانية فيصل ضد أبيه الحسين ؟! . وفي واقع الحال فقد شهد معسكر الشريف حالات مايمكن توصيفه تخفيفاً بحالات عدم رضا ! حيث انقطع فيصل عن أسرته والحجاز وأخذ يدور في فلك بريطانية ، وقد رصدت القوات العسكرية البريطانية برقيات تعود للشريف حسين شكا فيه ولده فيصل ( انهم جعلوا ولدي ينقلّب علي ويعيش في بلدان أخرى إنه متمرّد وخائن لوالده ) وقال في مكان آخر : ( أنني أعيش تحت أوامر ولد عاق وعاص وهذا ما يثقل بهذا الشقاء ) وهدّد بأنه ( إذا ما استمرّ فيصل في تدمير مستقبله الطيب وأمته وشرفه ) فلابدّ من تعيين مجلس حربي يحل محله ، وفي أثناء ذلك أشار متحدثون بإسم السوريين وفقا لتقارير المكتب العربي الواردة من القاهرة أنهم مستعدون لقبول فيصل ملكاً دستورياً عليهم ولكن فقط بأهليته وليس إذا جاء بصفة مندوب للحسين أو ممثل له … وفي العودة إلى بغداد والبصرة فإنّ سياسة الإستقلال العربي الذي كان قد أعلنه سايكس ووزارة الخارجية البريطانية بما هو أكثر من التأييد اللفظي ( رغم المناورات واللقاءات المتعددة حيث لم يؤمن الضابط في الجيش الهندي ويلسون باستقلال الولايتين اللتين كان يحكمهما ، ولا بدور للملك حسين ملك الحجاز البعيدة في شؤون الولايتين ١٠ ،
وفي العودة إلى وضع العراق ، فقد كانت الإنسان جيرترود بل أشهر من الفن كتباً عن الأراضي العربية في زمنها ، وقد جاءت إلى بغداد مع جيش دجلة وعملت بصفة مساعد ويلسون وقد تحمّست لعملها كثيراً وكذلك لإجراء ويلسون .. وفي شهر شباط كتبت الى صديقها القديم تشارلز هاردنيج الوكيل الدائم لوزارة الخارجية البريطانية مؤكدة على أنّ ( خطوات مذهلة قد تحقّقت باتجاه إقامة حكومة منظمة .. ولا يقف أي عنصر هام ضدنا .. وكلما قويت قبضتنا ونحن نمسك بزمام الأمور هنا ، زاد سرور السكان .. إن ما يكرهونه هنا هو الحلول .. لا أحد في بغداد أو البصرة يستطيع التفكير بحكومة مستقلة . ) ١١. وما إن حلّ ( .. صيف عام ١٩١٨ تحدّث وليم اورمسي – غور أمام اللجنة السياسية الصهيونية في لندن قائلاً ( إن الفئة المثقفة السورية من محامين وتجار هي المشكلة الشائكة والأصعب في الشرق الأدنى وهؤلاء لهم حضارتهم وهم مع ذلك فقد أنت صوت كل رذائل الشرق ١٢.
وفي العودة إلى سايكس استمرّ قلقاً من ألا يوافق السوريون على اتفاقية سايكس – بيكو وكذلك بالشريط الذي عرضه مكماهون على الشريف حسين وهو كان قد طلب من المكتب العربي في عام ١٩١٧ اجتماعاً ، وكتب بخط يده يزعم بأنه نجح وأردف ( .. كانت المشكلة الرئيسية هي المناورة لجعل المندوبين يطلبون ما كنا نحن مستعدين لإعطائهم دون أن ندعهم يعرفون أننا قد توصّلنا الى أية اتفاقية جغرافية محددة ، ولابدّ أن الإتفاقية الجغرافية المحددة كانت تعني خط دمشق – حمص – حماة – حلب والذي تقرّر أن يكون الحد الغربي الإستقلال العربي في سورية بموجب الإتفاق الذي كان قد تمّ مع الفاروقي في عام ١٩١٥ ومع قرنية في السنة التي بعدها ( ١٩١٦) ، وظهرت تقارير عديدة ومن أوساط مختلفة أفادت حينها بأن الحكومة العثمانية ربما تخطّط لإجهاض مشاريع القومية العربية عن طريق منح سوريا الحكم الذاتي فوراً ، والذي كان سيؤدّي إلى وضع بريطانيا في حرج شديد من زاوية كونها راعية لمطالب الشريف حسين المعارضة لأية قيادة عربية من أهل هذه البلاد والتي قد تكون لها شعبية أكبر، لاسيما في المحافظات السورية الأخرى ، وقبيل انتهاء عام ١٩١٧ أرسل سايكس برقية إلى كلايتون قال فيها ( ينتابني القلق بشأن الحركة العربية .. هناك رسائل تشير إلى صعوبة الجمع بين نظام المشيخة المكية والمثقفين من سكان المدن السورية ١٣ . وعليه .. اقترح إنشاء لجنة تنفيذية عربية لتشجيع الوحدة وبالرغم من تشاؤم كلايتون من إمكانية إنجازها كان جواب سايكس هو : ( اتفق معك بشأن الصعوبة ولكن النجاح العسكري يسهل الأمر مقترحاً إقناع بيكو بطمأنة السوريين على أنّ فرنسا تحبّذ استقلالهم في نهاية الأمر.. ملوحاً بأنه أثناء الحديث مع بيكو دفاعاً عن العرب يتوجّب استخدام ذات الحجج في الحديث دفاعاً عن الصهيونية ١٤
يتبع
……
هوامش :
١ – الصفحة ٢٤١ – ٢٤٢
٢ – الصفحة ٣٤١ – ٣٤٢
٣ – الصفحة ٢٤٢
٤ – الصفحة ٢٤٣
٥ – الصفحة ٣٤٢
٦ – الصفحة ٣٥١
٧ – الصفحة ٣٥٢
٨ – الصفحة ٣٥٢
٩ – الصفحة ٣٥٤
١٠ – الصفحة ٣٦٢
١١ – الصفحة ٣٦٢ – ٣٦٣
١٢ – الصفحة ٣٦٧
١٣ – الصفحة ٣٦٧
١٤ – الصفحة ٣٦٧.