من أجل إنعاش الحزب السياسي الكوردي
جان كورد
06. Juli 2015
يعتبر الحزب السياسي الكوردي في غرب كوردستان (وغرب كوردستان مصطلح جغرافي أكثر مما يكون واقعاً سياسياً الآن) من إفرازات وأشكال وهياكل للعمل السياسي في زمن الحرب الباردة التي استعرت بين نظامين عالميين وحلفين عسكريين متعارضين، يقود كلاً منهما دولة عظيمة القوة، هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وهذه الحرب الباردة التي لم تكن “باردة” في كل مكان، بل تم تفتيتها إلى حروب صغيرة، هنا وهناك في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما جرى في كوريا وكامبوديا والفيتنام وبيافرا وكوبا والشرق الأوسط، وكانت “الحرب الباردة” قد بدأت بعد انهيار النازية الألمانية والفاشية الإيطالية والعسكريتاريا اليابانية تحت ضربات الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، وتأثر الحزب السياسي الكوردي بالأفكار الأممية للثورة الشيوعية من خلال الاحتكاك بالأحزاب الشيوعية في المنطقة، مثلما تأثرت إلى حدٍ ما بالأفكار الديموقراطية التي انتشرت في المنطقة أثناء تواجد الاستعماريين الانجليز والفرنسيين الذين كان دأبهم السعي لإيجاد أحزاب علمانية شبه ديموقراطية تدور في فلكهم وتقف في وجه المدّ الشيوعي و”الصحوة الإسلامية” على حدٍ سواء، فدعمت بعد حصول بعض الدول العربية على الاستقلال الوطني، ومنها سوريا، صعود حزب البعث العربي الذي قاده السيد ميشيل عفلق، المتأثر بأفكار الحزب النازي الألماني والاشتراكية الدولية على حدٍ سواء، وراحت الشريحة السياسية من أبناء البورجوازية الوطنية والاقطاعيين وكبار العائلات المتنفذة في عهد الاحتلال الفرنسي تؤسس في سوريا أحزاباً “سياسية!” وصحفاً ومنتديات وتعمل على توضيح الأفكار الديموقراطية التي لا تؤثر سلباً في مكانتها الاجتماعية والسياسية ومصالحها المادية، وبهذا كله تأثر الحزب السياسي الكوردي إلى حدٍ ما، إلاّ أن مشكلة “الجهل والفقر” كانت أكبر عائق على طريق بناء أحزابٍ سياسية كوردية “ديموقراطية” بكل معنى الكلمة، وزاد في الطين بلّة سيطرة عناصر ذي ممارسات غير ديموقراطية ذي خلفيةٍ اجتماعية كلاسيكية على قيادة الحزب، ظل هدفها الأول والأكبر، طوال المسيرة، البقاء في أعلى القيادات، وعدم السماح بتوسيع قواعد التنظيم، حتى تتمكن من السيطرة على الحزب، وأخذت بتطبيق “المركزية – الديموقراطية” و”التراتب التنظيمي الهرمي”، عوضاً عن التنظيم الجماهيري الواسع، الضعيف في التراتب الهرمي، لكيلا يظهر منافسون أشداء يمكنهم إزاحة القابعين على رأس الحزب وفي هيئاته العليا، رغم مرور سنين طويلة على بقائهم هناك دون انتاجٍ مثمر للشعب. وكانت عبارة “يكفينا في كل قرية رفيق أو اثنان فقط” متداولة، وكان التنظيم سريّاً بذريعة الخوف من النظام الذي لم يكن يتوانى عن زج المناضلين الكورد في السجون ويعذبهم ويحكم عليهم بأحكامٍ قاسية، في حين كان زعماء الحزب السياسي الكوردي يلتقون مع كبار رجال الأمن السياسي والعسكري، سراً ومن ثم علانية، بل شرعوا يتنافسون في التقرّب من أولئك المجرمين، أعداء الكورد وكوردستان، ويحاولون إقناع الرفاق الحزبيين بأن “هذا أفضل لبقاء الحزب في هذا الزمن العسير!”.
وهنا أتذكر حادثةً عن العلاقة بين مسؤول حزبي كوردي عالي المقام ودوائر الأمن: دخل شخصٍ كوردي علينا في شتاء عام 1971 في قبوٍ من أقبية المعتقلات السرية السورية بمدينة حلب، وقال أمامي لمسؤولٍ يشبه العفاريت بمظهره المخيف: “الأستاذ (فلان) يسلّم عليكم ويقول الأستاذ الفلاني وكان يقصد رفيقاً أعلى مني مرتبةً في الحزب السياسي الكوردي – من جماعتنا، يرجى الإفراج عنه.” فقلت للرفيق موضوع الكلام ونحن نأكل واقفين في مطبخٍ ضيّق وقذر من قصعةٍ واحدة فيها قليل من الرز غير المطبوخ جيداً بأنه سيخرج من المعتقل، فاغتاظ بسبب قولي، وقال: كيف سأخرج وتبقى أنت هنا وأنا أعلى مسؤوليةً في الحزب؟ وتم الإفراج عن ذلك (الرفيق) في اليوم التالي مباشرة، في حين تم الحكم عليّ بالسجن لمدة 3 سنوات مع الأعمال الشاقة، ثم تم تخفيف الحكم “نظراً لصغر سني!” إلى سنة واحدة من دون أعمال شاقة. والأستاذ (فلان) الذي أرسل الشخص الوسيط لايزال أميناً عاماً لحزبه وكذلك الرفيق الذي كان معتقلاً مثلي لا يزالان على قيد الحياة…
وبقدر ما طالت تلك الفترة التي تجمّد فيها النشاط التنظيمي إلى أدنى الدرجات، و تحسنت العلاقة بين بعض القياديين الكورد وأجهزة النظام البعثي – الأسدي اتسعت فرصة نجاح التطبيق لسائر المشاريع العنصرية الشوفينية لنظام البعث الذي كان ينظر نظرةً فاشية لشعبنا ويرفض منحه أي حقٍ قومي له، مما جعل شبابنا ينتقد قيادته السياسية انتقاداً شديداً، وينتسب إلى “البديل الشيوعي!” بالآلاف، في حين فشل “الإخوان المسلمون” كسب الشباب الكوردي لاقتراب مواقفهم تجاه قضيتنا القومية العادلة من مواقف النظام والشوفينيين العرب، ومن الشباب من التحق ب”المنظمات الثورية” الفلسطينية… أو ابتعد عن السياسة تماماً،
طائفة كبيرة من الشباب الذين وجدوا أنفسهم بدون قيادة حقيقية قادرة على تحقيق أماني وطموحات الشعب الكوردي، تأثرت بالأفكار اليسارية (الاشتراكية) سرعان ما التحقت بأول تنظيم كوردي يساري، إلا أنه ظل ضمن إطار “التفكير اليساري العربي”، ولم يخلق لنفسه إطاراً يسارياً كوردياً، فالمواقف من القضايا السورية، خارج إطار القضية الكوردية، لم تختلف أبداً عن مواقف القوى العربية “التقدمية!” وعن مواقف فصائل الثورة الفلسطينية، بل في بعض الأحيان تطابقت مواقف اليسار الكوردي – مع الأسف – مع مواقف اليسار العربي حتى تجاه الثورة الكوردية التي كان يقودها القائد الأسطورة مصطفى البارزاني. وهذه حقيقة مرّة لا يريد كثيرون الحديث عنها، إلاّ أن هناك دفاتر التاريخ يمكن العودة إليها، بل كان اليسار الكوردي يجد في اليسار العربي وفي “الثورة الفلسطينية” رفاقًا في السلاح والفكر، حيث حمل اليسار الكوردي في الساحة اللبنانية ووقف مع جبهة لبنانية ضد أخرى، في معركة لم يكن للكورد فيها ناقة أو جمل، وعلى الرغم من أن “الحلفاء” من العرب والفلسطينيين كانوا متحالفين وبشدة مع أعتى أعداء شعبنا، ألا وهو صدام حسين التكريتي وحزبه البعثي الفاشي، وتأتيهم منه الأموال والأسلحة والدعم الإعلامي والخبرات الاستخباراتية، في حين كانت علاقة اليسار الكوردي واهية جداً مع بعض الأحزاب الكوردية التي كانت تكافح مثل اليسار يين من أجل قضيتنا القومية.
لم يكن الشباب يلاحظ فارقاً كبيراً بين (فكر وتنظيم وممارسات) ما كنا نسمي ب”اليمين الكوردي” و”اليسار الكوردي”، فالتراتب التنظيمي الهرمي هو ذاته لدى الطرفين، والمطلب القومي هو ذاته مع ارتفاعٍ أو انخفاض طفيف، والمواقف تجاه قضايا المنطقة لا تختلف إلا في أسلوب تدوين البيانات التي منها ما كان محشواً بالعبارات البراقة عن “التضامن الأممي” و”تحالف حركات التحرر الوطني” و”القيادة الحكيمة للاتحاد السوفييتي العظيم.”، كما كانت الممارسات اليومية في الساحة الكوردية لا تختلف بين اليمن واليسار، وذلك نظراً لصعوبة “الإطار الظرفي” الذي كانت تعيش ضمنه حركة شعبنا في ظل نظام البعث المتخلف عن العصر والكاره للديموقراطية والتعددية.
الآن، بعض الأحزاب الكوردية المنشقة عن بعضها اليوم والمتحالفة غداً، وهي كثيرة ومختلفة في برامجها وطموحاتها وقواها وعلاقاتها وولاءاتها الكوردستانية، لا تملك حتى بعد التطور العلمي والتكنولوجي العظيم دراساتٍ دقيقة ومفصلة عن ساحة العمل التي تناضل فيها، وليست لها أرشيفات كاملة يمكن من خلالها دراسة تاريخ الحزب السياسي الكوردي بشفافية وموضوعية، وليست لها خطة واضحة المعالم لحكم “غرب كوردستان” كما ليس لديها الكادر المؤهل لتنفيذ خططها المختلفة، في الإدارة وفي الخدمات وفي حالات الطوارئ والحرب، في هذه الظروف غير الطبيعية لسوريا، وإن كنا نرى الآن حزباً واحداً يقوم بكل شيء مصحوباً بعسفٍ كبير وانتهاكٍ لحقوق الإنسان والطفل، حيث زج الأطفال بالمئات، دون الثامنة عشرة، من الذكور والإناث، في مواقع الخطر وجبهات القتال، بذريعة الدفاع عن “شرف وكرامة الشعوب الديموقراطية ولتحقيق “مشروع الكونفدرالية الديموقراطية الإيكولوجية” ضد إرهاب “تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)”.،. وهو مشروع يذكرنا بخرافة “دولة الأممية البروليتاريا التي لا تعترف بالحدود بين الشعوب والأقوام.”
كما لا نجد “ميزانيات” مكشوفة وواضحة السطور لواردات هذه الأحزاب الكوردية وصرفياتها، ولم نرَ حزباً كوردياً نشر خطة عمل سنوية له في مؤتمر من المؤتمرات التي في أغلبها تعقد لتمديد الفترة الرئاسية وتعديل بعض المواقع المشكوك بأمر القائمين عليها من حيث الولاء في الهيئات العليا، فيتم بموجب الخطة فتح باب الترشيح للقيادات المسؤولة والمستعدة لتنفيذها. ورغم الأخطاء الفاضحة الكبيرة والصغيرة، بل رغم الوقوع في جرائم ضد أمن الشعب الكوردي، لا نتهاج بعض الأحزاب سياساتٍ مدمرة لمصالح وحياة شعبنا، فلا استقالات ولا محاسبات، والأمناء العامون “معصومون” عن الخطأ، وبعضهم “لا بيهش ولا بيكش” كما يقول المصريون، والأقربون يشكلون حولهم حصوناً وقلاعاً من الولاءات الكوردستانية تزج بالشعارات والأحلام و… دأبهم التحالفات التي سرعان ما تنهار أمام عيون شعبنا في وضح النهار.