آراء

طلّابنا في الغرب بين الإمكانيات الواعدة والأخطار المحدقة

عبدالباسط سيدا

حقّق الطلّاب الكُرد السوريون، والسوريون بصورةٍ عامة، في الدول الأوروبية والغربية على وجه العموم، وحتى في عددٍ من دول المنطقة، نجاحاتٍ متميزة في مختلف الميادين الدراسية، لا سيما في مجالات الطبّ وعلوم الأحياء والهندسة والحاسوب والعلوم الإنسانية. واليوم هناك توجه لافت بينهم نحو التخصص في ميادين الذكاء الاصطناعي، وذلك لمعرفة المآلات المستقبلية التي يُعتقد أنها ستكون بفعله. أو على الأقل الاستعداد لمواجهة التحديات المتوقعة وغير المتوقعة التي ستتمخّض بفعل تطبيقاته في المجالات المختلفة؛ والتحسّب لإمكانية استغلال تلك التطبيقات من قبل المنخرطين في عالم الجريمة.

وقد أصبح من المألوف في غالبية الدول الغربية أن يقابل المرء هؤلاء الطلّاب في الكثير من أماكن العمل التي كانت تعدّ سابقاً حكراً على أبناء البلد الأصليين، وليس أبناء المهاجرين. ولكن في مقابل هذه الإنجازات الواعدة برزت في السنوات الأخيرة مخاطر جدية جسيمة تتمثّل في انزلاق العديد من أبناء المهاجرين إلى عالم الجريمة، نتيجة عوامل كثيرة منها ضغط المجموعة والتأثر بالأصدقاء، وربما بتشجيع أو غض نظر الأهل لأسباب مختلفة؛ هذا إلى جانب الرغبة، عن جهل، في التمتع سريعاً بالمظاهر التي تعطي انطباعاً بالتمييز مثل ارتداء أحدث ماركات الألبسة، وحمل الساعات الثمينة والهواتف الحديثة الغالية؛ وقيادة السيارات الفارهة؛ هذا إلى جانب مظاهر البذخ الزائد التي يحرص عليها بعض الأشخاص لاثبات إمكانياتهم وقدرتهم على الهيمنة، وأداء دور القائد أو الزعيم.

والجريمة المحورية التي تصطاد هؤلاء الشبان، أو حتى اليافعين، تتمثّل في المخدرات، عبر الترويج لها وتسويقها والاتّجار بها؛ والدخول رويداً رويداً في عالم العصابات التي تشرف على تجارتها، وتتحكّّم بمناطق الترويج والتسويق، وهي عصابات مستعدة للتدخل، واستخدام مختلف الأساليب، بما في ذلك التصفيات الجسدية؛ لمنع المنافسين من الامتداد إلى مناطقها؛ وكل ذلك تسبّب في حدوث مآس كبرى حلّت، وتحلّ، بالأسر التي كانت، وتكون، ضحية جرائم القتل (سواءً من جهة القاتل أم المقتول، وما يترتّب على ذلك من عقوبات؛ وتبعات الانتقام المتواصل. هذا إلى جانب الضغوط والتوترات النفسية والمشكلات الاجتماعية، فضلاً عن الحرمان من الإمكانيات الهائلة التي توفّرها الدول الأوروبية للطلبة ليتابعوا دراستهم في أفضل المعاهد والجامعات مقابل مبالغ زهيدة، وحتى بصورة مجانية، بالإضافة إلى المساعدات التي تقدّم عادةً للطلبة ليتمكّنوا من إنهاء دراستهم سواءً في داخل البلاد أم خارجها.

هذه الظاهرة الخطيرة (تسويق وبيع المخدرات والجرائم المتحوّرة حولها) هي في طريقها نحو التفاقم، بكل أسفٍ، هذا ما لم تبذل جهود كبرى من قبل المجتمع من خلال منظمات المجتمع المدني، وحتى من قبل الأحزاب، وعلى مستوى المختصين والمتابعين لأسباب وتطورات ونتائج هذه الظاهرة.

وهنا لا بدّ من تأكيد أهمية دور الأسرة في المقام الأول عن طريق متابعة الأبناء، والتواصل مع مدارسهم، والسعي للتعرف إلى الأجواء التي يعيشونها في ساعات الفراغ، إلى جانب التدقيق في المتغيرات التي تحدث لهم؛ والسؤال عن مصادر دخلهم قياساً إلى ما يشترونه أو يصرفونه بطرق مبالع فيها.، أو من جهة الصرف بطرق مبالغ فيها، ومراقبة سلوكياتهم الجديدة.

وكل ذلك لن يؤدّي إلى النتائج المرجوة ما لم تقدّم الأسرة النموذج السليم لأبنائها من الأطفال واليافعين خاصةً. فهؤلاء لا يركزون على ما يسمعونه من الوالدين، وإنما على ما يشاهدونه من تصرفاتهم ومدى تطابق أقوالهم مع أفعالهم.

ويمكن في هذا المجال للمنظمات الحزبية (التابعة للآحزاب التي تعمل في الوطن) الموجودة في أوروبا أن تقوم هي الأخرى بمهمات التوجيه والتقويم عبر وضع خطط واقعية تستند إلى النتائج البحثية، وخبرات المحيطين، والعمل على تنفيذ تلك الخطط عبر النشاطات المجتمعية والفنية والرياضية والمحاضرات، والتواصل مع الأسر التي تعاني من المشكلات المعنية، بهدف تقديم المساعدة المطلوبة لها، وإخراجها من عزلتها بفضل ترسيخ شعور إيجابي لديها فحواه أنّ الحياة لا تنتهي لدى ظهور المشكلات مهما كانت كبيرة، بل تأخذ بعداً آخر يستوجب التصدي لتلك المشكلات بالمنطق والحكمة، والمعالجة السببية الجذرية لكلّ مشكلة.

ولكن التركيز على مسؤولية الأسرة ليس معناه تجاهل مسؤولية الجهات الأخرى المعنية بهذه المسألة، خاصةً تلك التي تمتلك الإمكانيات المادية والخبرات المهنية، ونعني بهذه الجهات البلديات، وأجهزة الدولة المركزية، إلى جانب الوزارات المختصة بهذه المسألة على مستوى الحكومة المركزية؛ فمن المطلوب من هذه الجهات اتخاذ الإجراءات لمعالجة التقصير الذي كان، أو الذي ما زال، في سياسات الاندماج، وإتاحة فرص التعليم والعمل لأرباب الأسر من المهاجرين على الصعيد الواقعي، وليس على المستوى النظري فحسب، فهذا الأخير لا يؤدّي عادةً إلى تغييرات ملموسة إيجابية لصالح تماسك الأسر وقدرتها على توجيه أبنائها، والإسهام في عمليات الإصلاح التي تستهدف الجانحين. كما أن تنظيم الفعاليات والورشات التعليمية من أجل التوجيه، وتنظيم اللقاءات لتبادل الخبرات بين الآباء والأمهات بخصوص الأبناء والبنات المنحرفين بصورةٍ منهجية معرفية تؤدّي إلى الاستفادة المشتركة، وتخفف من حدة الشعور بالإخفاق والإحباط لدى الأسر التي شاءت الظروف أن تكون ضحية انضمام أبنائها إلى عالم الجريمة أو الخروج عن الطريق الصحيح (وذلك نتيجة عوامل عدة متباينة أتينا على ذكر قسم منها) لتتحوّل التصرفات غير السوية مع الوقت إلى جزء من محددات السلوك، ومن ثم السقوط في أحضان الجريمة، الأمر الذي تكون عاقبته في نهاية المطاف نتائج محبطة، تنعكس سلباً على حياة الأفراد الضحايا، وعلى حياة أسرهم، وعلى المجتمع بصورةٍ عامة.

الظاهرة التي نتحدّث عنها هي في طريقها إلى التعاظم، ومخاطرها تتراكم بكلّ أسف، وستؤدّي إلى نتائج كارثية، ما لم تعالج معالجة حرفية سببية، بكل حزم من سائر جوانبها. ولعله من نافلة القول أن نذكر هنا في الختام: أن هذه الظاهرة تسيء إلى النجاحات المتميزة التي حقّقها، ويحقّقها، شبابنا في مختلف الميادين والاختصاصات كما ذكرنا في البداية؛ بل هي تنذر بالكثير من السلبيات والمآسي إذا تركت من دون معالجة مهنية متكاملة.

المقالة منشورة في جريدة يكيتي العدد 320

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى