عقدة الاضطهاد عند الكُردي
د. جوتيار تمر
دهوك/ أقليم كُردستان
من البديهي أنّ الحزن والكآبة سيكونان رفيقان ملازمان للأجيال الكُردية القادمة التي ستولد على نغمة عزائية حزينة مبعثها الشعور اللامنتهي والمتنامي أبداً لدى الجميع من أبناء هذا الشعب بالعجز من فعل أي شئ، لأنّ الذي ذبح ونحر وأحرق ما زال جاثماً على صدورهم، وأمام أعينهم شأنهم شأن الباريسيين الذين كانوا ذات يوم كلما التفتوا حولهم وجدوا قلعة الباستيل أمام أعينهم، تلك القلعة التي ظلّت تنحر رغبات الحرية فيهم وتذبح بأبراجها وبنادقها ومدافعها جذور السعادة في أعماقهم ؛ لما تحمل في طياتها مضطهدين أبرياء مخلصين .. للأرض وساكنيه فكأنها أصبحت عقدة تثير الكآبة فيهم.. وتحصد طموحاتهم لغدٍ مشرق.
إنّ مجرد التفكير بمصير الأجيال القادمة على ضوء هذه الوتيرة المأساوية ستخلق بالفعل ردة فعلٍ سلبية لديهم .. بحيث سيكون العجز عن تقديم أي شئ إيجابي مرده تلك العقدة التي غرستها الأنظمة المتعاقبة في نفوس الناس، العقدة المتمثلة بعقدة الاضطهاد أو لنقل الشعب المضطهد ..
ولعلّ الخبراء النفسيون يدركون أكثر من غيرهم آثار وسلبيات مثل هذه المشاكل النفسية .. وهذه الظواهر السايكولوجية التي برمتها ستؤثّر سلبأ حتى في الطبيعة الفيزيولوجية للإنسان بحيث ستخلق إنساناً غير سوي من جوانب عديدة ..
ومما لاشكّ فيه أن بروز مثل هذه الظواهر داخل المجتمعات الطامحة إلى الصعود واللحاق بركب الحضارة أو السير ضمن قافلتها ستكون عائقأ منيعا..بل ستكون أشبه بطفولة قدر لها أن تكبر خلف أسلاك شائكة .. كلما نظرت حولها وجدت البنادق مصوّبة إلى رأسها ..وإذا ما أرادت أن تنظر إلى السماء وجدتها غائمة قد غطّتها غيوم سوداء أشبه بدخان يتصاعد من أفواه المدافع .. وكذلك أقدامها تكاد تكون مغروسة في الأرض .. لكثرة ما قد سفكت الدماء عليها .. هذه الطفولة حتى لو أغرقت بالهدايا.. والألعاب وكل ما هو مسل وملهي ..
لن تتخلّص من عقدة الدم المرافقة لنضوجها وتكوينها وستظل برغم كلّ ما قدمت لها، طفولة كبرت مع البنادق والدم وعندما تكون ألاسلاك الشائكة هي آفاق الكون الرحيبة أمام أعينها بالطبع سيكون كلّ ما تقدّمه وتفكّربه الطفولة هذه بعد أن تأخذ مجالها مجرد حلول وأسباب وكيفيات الخروج من الحصار الشائك وكيفية قطع دابرها دون أن تفكّر بخلق واقع نفسي مهيّأ للمطالبة بالخروج من دائرة الحصار الشائك وإعداد الخطط اللازمة لتقبل واقع آخر خارج تلك الدائرة بحيث إذا ما انقطعت الأسلاك وأتت الحرية يمكنها أن تتكيّف مع ذلك الواقع الجديد وتكمل من عندها مسيرتها الحضارية دون الالتفات إلى الوراء، والبدء من جديد ، من بداية تلك الحقبة التي أبدعوا فيها وبسببها أدخلوا خلف الأسلاك الشائكة ، لا نقول هنا هدمها .. وتركها بلا قيمة.. إنما نقول بأننا قد تجاوزنا مرحلتها .. ولا يحتاج الأمر منا أن نعيدها لنكمل مسيرتنا .. إنما نحافظ على وجودها كمرحلة أعطت لمسيرتنا الشريعة الزمنية والمكانية وكل ما هو مطلوب منا أن نستمرّ من حيث انتهينا لنقطع بذلك شوطأ داخل الزمن..ولعلنا بذلك نعالج الأنفس بدواء ظل لقرون عديدة مجرد داء آخر نتعلّل به أمام الزمن والمكان .
تلك القرون التي ظلّت العقدة الاضطهادية والتفكير التآمري .. والخوف من الاضمحلال والتلاشي .. هي أهم السمات الفكرية لمثقفيها وأصبحت بفعل الأيام شريعة إلهية يؤمن بها الناس فتربّت الأجيال عليها، وظلّت تعاني الأمرّين معها .. لا هي تعرف من هويتها سوى شعب مضطهد .. ولا من فكرها القومي سوى أعداء يتآمرون عليها لانها (كُردية) أما سلبيات الاستمرار بالوضع هذا، والتفكير بهذه الطريقة فلايهمّ لأننا شعب مضطهد.. والجميع متآمرون علينا.. لقد مرّت قرون وقرون وها هي تمرّ ألان أيضاً كمرّ السحاب وقد خلقت وما زالت تخلق وراءها كماً هائلاً من المتغيرات والأحداث تشهد على ذلك .. ولكن ما لم يتغير ولم يفكّر أحد بتقديم مشروع خاص له.. للتغير هو جوهر القضية .. فالكلّ ما زال يرى ما كان يراه بالامس البعيد .. والكلّ ما زال يظنّ بنا ظنونه العتيقة ..وما تغير معنا هو أننا قبل اليوم كنا في خندق سائر بطوعية نحو آفاقهم .. واليوم انشقّ خندقنا إلى شقين فالجانب الذي كان يترأس قافلتنا تمرّد على بعض آمالهم ..والشق الأخر(نحن) أصبحنا مشردين تائهين ومن اللامعقول أن يبقينا أصحاب الأفق هكذا .. لا..لأننا نحن .. إنما لأنهم يرون فينا ما هم يريدونه الآن.
لعلها نظرة تشاؤمية تآمرية أخرى ..لكن.. يا ترى ما السبيل للخروج منها ..هل تكرار ما قد حصل قد يخرجنا لبعض الوقت من تلك الدائرة التآمرية .. ولعلّ قول (في الإعادة فن وإفادة) ينطبق علينا في هذه الحالة أم .. أن نفكّر منذ اللحظة وبالأخص الذين يحملون الفكر .. الفكر المتسامي على النظرة الضيقة والأحادية أصحاب النزعة الإنسانية .. بوضع منهج تربوي جديد خالٍ من اللطم والنواح..
ومن الافتخار بالرمزية الوثنية ، ونؤمن بالإبداع وببناء صرح جديد على جماجم الشهداء .. لا .. تدنيساً لهم إنما إكراماً لقدسيتهم وحتى لا نظلّ ننوح لذكراهم .. إنما لنمجّد الصرح بأساسه وعلوه .. وأهمية الاستمرار في أعلاه .. الأمس حي فينا .. لكنه لن يعيقنا ولن يأخذ الوقت منا لأنه كان بسببنا .. واليوم مسيرة مستمرة نحن فيها .. والغد لن يكون إلا لمن يستمر.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “320“