آراء

العلاقات التركية/السورية إلى أين؟

فؤاد عليكو

منذ قمة آستانة الأولى عام 2016، لم ينقطع التواصل الأمني بين تركيا وسوريا، لكنه لم يتقدّم بالشكل المطلوب ؛ بسبب اشتراط النظام تحديد موعد زمني للانسحاب العسكري التركي من سوريا، بينما كانت تركيا تربط الانسحاب بالتقدم في مسار حل الأزمة السياسية في سوريا، وفقاً للقرار الدولي 2254.

الملفت أنّ هناك تغييراً في موقف الطرفين منذ بداية هذا العام، خاصةً بعد إعلان حزب الاتحاد الديمقراطي (ب ي د) عن عزمه إجراء انتخابات بلدية في منطقة سيطرته، فنظر إليه الطرفان بريبة واعتبروه بدايةً لتكريس الأمر الواقع، الذي يفضي بالنهاية إلى تقسيم سوريا تحت الرعاية الأمريكية. على الرغم من عدم واقعية هذا التصور، إلا أنه اعتبر مدخلاً لإحياء الحوار بعيداً عن الاشتراطات السابقة.

لكنّ الحقيقة تكمن في جوهر الموضوع، وهو أنّ سياسة تأهيل النظام من قبل الدول العربية وعودته للجامعة العربية وحضور الرئيس السوري للقمم العربية، دفعت بتركيا أيضاً إلى إعادة النظر في سياستها تجاه النظام لاعتبارات عدة، منها:

– الضغط الكبير في الشارع التركي حول مشكلة اللاجئين السوريين في أراضيها واستغلال المعارضة ذلك للنيل من تأثير ونفوذ حزب العدالة والتنمية، وقد ظهر ذلك واضحاً في الانتخابات الأخيرة للبلديات. إضافة إلى وقوف جناح (PKK) السياسي (ه د ب) إلى جانب المعارضة في الانتخابات، مما تسبّب في خسارة كبيرة لحزب العدالة والتنمية في العديد من المدن الرئيسية (أنقرة، إسطنبول، إزمير…).

– الوضع الاقتصادي غير المريح وانخفاض قيمة العملة التركية بشكل كبير بالترافق مع زيادة التضخم، وانعكاس ذلك على حياة المواطنين اليومية وتحميل تواجد اللاجئين السوريين مسؤولية ذلك.

– أحداث ولاية قيصري وتمددها إلى ولايات أخرى مما يؤشّر إلى استفحال ظاهرة الكراهية داخل المجتمع التركي نتيجة بقاء اللاجئين السوريين المستمر، كما أنّ ارتدادها على الداخل السوري في مناطق النفوذ التركي وقيام المظاهرات ضد تركيا وحرق علمها من قبل المتظاهرين، زاد من منسوب الكراهية لدى الشارع التركي وأحرج حكومة العدالة والتنمية أمام جمهورها، واستغلّت المعارضة هذا الوضع لتجييش الشارع الشعبي التركي ضدها.

كل هذه العوامل دفعت تركيا إلى مراجعة سياستها في التعامل مع النظام السوري بطريقة مختلفة بعيداً عن الاشتراطات السابقة بربط التعامل مع النظام السوري بالحل السياسي المنشود. كما أنها وجدت عدم جدوى محاربة PKK دون التفاهم مع العراق وسوريا. لهذه الأسباب كان لا بدّ من التحرك على هذا المسار. وقد حقّق الرئيس التركي أردوغان في زيارته لبغداد في أواسط نيسان تقدماً كبيراً من خلال التفاهم بين الطرفين حول الموضوع، ولم يبقَ إلا الجانب السوري. هذا ما دفع أردوغان إلى التوجه إلى روسيا والعراق لإحياء الحوار بغية الوصول إلى صيغة توافقية مع النظام السوري مع إعطاء تصريحات مرنة تجاه النظام السوري. كما أنّ النظام بحاجةٍ ماسة أيضاً إلى إعادة العلاقات مع تركيا، التي يعتبرها ضرورية بغية رفع تركيا الغطاء الداعم للمعارضة السورية وفك الحصار الاقتصادي عليه، ومن ثم السيطرة على كامل الجغرافيا في الشمال السوري. لكن تعقيدات السيطرة على الشمال لا يمكن أن تسير بهذه السلاسة ولا يمكن مقارنتها بعودة العلاقات بين تركيا ومصر بإبعاد قسم من المعارضة المصرية عن الأراضي التركية ومن ثم عودة العلاقات الطبيعية بين الطرفين بهدوء. لأنّ الوضع بالنسبة لسوريا وتركيا معقد أكثر مما نتصور، حيث هناك أكثر من ثلاثة ملايين لاجئ داخل تركيا فرّوا من قمع النظام وتركوا كل شيء خلفهم، كما أنّ هناك خمسة ملايين سوري يعيشون تحت الحماية العسكرية التركية داخل الأراضي السورية، ولا أحد منهم يرغب بالعودة دون توفر ضمانات أمنية حقيقية. هذا لن يتحقّق إلا بتوفر الحد الأدنى من الحل السياسي والبيئة الآمنة لعودة المواطنين بأمان إلى منازلهم، لكن مناخ الحل السياسي المنشود غير متاح حالياً إقليمياً ودولياً. كما أنّ تركيا غير قادرة على الانسحاب العسكري وترك مصير الفصائل العسكرية الموالية لها وكذلك مصير الملايين من المواطنين للمجهول. وإذا ما أقدمت تركيا على خطوة كهذه، فعليها أن تتوقع الأسوأ، لأنّ العمليات العسكرية بين الطرفين ستستأنف وسيتدفّق ملايين اللاجئين إلى الحدود التركية واجتيازها جراء ذلك، مما يزيد الوضع تعقيداً. هذا ما لا تستطيع تركيا قبوله وتحمله، وهو معارض تماماً لفكرة إعادة اللاجئين في أراضيها وسوف ينطبق عليها المثل الشعبي (بدلاً من أن يكحلها عماها).

أما بالنسبة لمنطقة شرق الفرات ونقصد منطقة سيطرة قسد، فهي تحت النفوذ والحماية الأمريكية، ولا يملك النظام القوة في إعادتها إلى نفوذه دون موافقة أمريكية، وهذا غير متاح حالياً أيضاً. لكن جلّ ما يستطيع النظام هو عقد تفاهم مع تركيا على (الورق) بالسماح لها بالتوغل بعمق ثلاثين كم مقابل تمكينها من إدارة هذه المنطقة أمنياً وإدارياً، وذلك بممارسة تركيا الضغط على أمريكا للقبول بهذا التفاهم بين الطرفين. وعلى الأرجح هذا ما تريده تركيا في المرحلة الحالية، لأنها توفر الغطاء الشرعي من النظام لتدخلها في منطقة قسد، وهذا ما يشكّل إحراجاً كبيراً لأمريكا، خاصةً وأنّ الأخيرة سبق أن اتفقت مع تركيا في 2019 بالسماح لها بالتوغل مسافة 30 كم. كما يمكن لتركيا المساومة على جبهة النصرة والتخلي عنها وتمكين النظام من السيطرة على خط حلب-اللاذقية وتسليم مدينة إدلب للنظام مقابل ضمانات روسية بعدم التعرض للأهالي في تلك المنطقة وضمان عودة اللاجئين إلى مناطق أخرى من سوريا، ومن ثم يستمرّ الحوار مع ملف الانسحاب التركي والمعارضة الموالية لتركيا.

خلاصة القول، نحن أمام مشهد مختلف بالنسبة للعلاقات التركية/السورية عنوانه التفاهم على ملفات معقدة والتي تتطلّب وقتاً وجهداً كبيرين.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “322”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى