آراء

البارزاني آخر الباقين.. تمسكوا به قبل فوات الأوان!

أحمد الزاويتي

مسعود البارزاني.. تشديد مستمر على التمسك بالحقوق الكُردية

في فبراير/ شباط من عام 2015، تواجدنا ضمن نُخب كردية من كردستان العراق في ديار بكر لحضور مؤتمر ثقافي كردي هناك، جلس في بهو الفندق الذي تقيم فيه النخب، كل من آزاد جندياني، وكان حتى ذلك الوقت من قيادات الاتحاد الوطني الكردستاني، وفرحان جوهر، وهو برلماني من الحزب الديمقراطي الكردستاني، وعدنان عثمان، أحد الواجهات المعروفة في حينها لحركة التغيير التي كانت آنذاك أنشط حراك سياسي في كردستان يقوده السياسي المخضرم نوشيروان مصطفى، إضافة إلى الزميل الصحفي بوتان تحسين، رئيس المؤسسة الإعلامية التي كانت نظمت رحلة الوفد الكردي من إقليم كردستان إلى ديار بكر في تركيا.

رحل كلا الرجلين- جلال الطالباني ونوشيروان مصطفى- بعد سنتين من ذلك التاريخ، بالتحديد عام 2017، وظهر تأثير غياب هذا الثنائي واضحًا جدًا على قوة وحضور كل من الحزبين: حركة التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني.

في ذلك الحين كان الرئيس العراقي السابق جلال الطالباني طريح الفراش، ومبتعدًا عن التأثير في المشهد السياسي العراقي والكردي، وقبل ذلك كان تأثيره واضحًا، خاصة في القرار السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني، فسأل فرحان جوهر، آزاد جندياني عن صحة رئيس حزبه (جلال الطالباني)، وذكر جوهر أيضًا أن غياب الطالباني واضح على الاتحاد، وأن “الديمقراطي” بغياب الطالباني يعاني من أجل إجراء تفاهمات مع الاتحاد الوطني على المستوى العراقي!

قبل أن يرد آزاد جندياني على سؤال جوهر، تدخل عدنان عثمان من حركة التغيير مستخفًا بسؤال جوهر، ولسد الطريق أمام جواب جندياني، ولفرض رأيه وتوجهه على شاكلة الحماس الفوار، الذي كان قاعدة لحركة التغيير تشعر به في ذلك الوقت، ويريدون به فرض رأيهم بقوة على الآخرين!!

كان قد مر عام فقط على نصر حركة التغيير الساحق في انتخابات 2013، وحصولها على المركز الثاني بعد الحزب الديمقراطي الكردستاني، متجاوزة الاتحاد الوطني الكردستاني الذي انشقت منه حركة التغيير، فأصواتها اقتربت من نصف مليون على مستوى الإقليم، وحصلت على 24 مقعدًا في برلمان كردستان.

في حديثه تمنى عثمان ألا يعود تأثير جلال في الساحة السياسية، وكان يقصد ضمنًا ألا ينهض الطالباني من مرضه! وزاد على ذلك متمنيًا أن يلحق به كل من نوشيروان مصطفى والبارزاني أيضًا، فبزوال تأثير هذا الثلاثي: (الطالباني، مصطفى، والبارزاني)- وهو الجيل القديم حسب عثمان- سيُفتح الطريق أمام الجيل المعاصر الشاب والصاعد، فالحل الذي استعصى على أيديهم، سيأتي به الجيل الشاب!

رغم أنني لم أكن منتميًا للتوجه السياسي لأي من المتحدثين، فإنني تداخلت وقلت: “إن الأمر سيكون العكس تمامًا، فما هو موجود تحت أيدي الكرد حاليًا هو نتيجة تأثير هذا الجيل الذي يرغب عدنان عثمان بزواله، وإذا لم يبقَ تأثيرهم فلن يبقى للكرد شيء، وسيتم التعامل معهم أسوة بأي محافظة عراقية، لا على شاكلة إقليم كإقليم كردستان”.

رحل كلا الرجلين- جلال الطالباني ونوشيروان مصطفى- بعد سنتين من ذلك التاريخ، بالتحديد عام 2017، وظهر تأثير غياب هذا الثنائي واضحًا جدًا على قوة وحضور كل من الحزبين: حركة التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني.

فحركة التغيير كأنها سقطت من القمة إلى القاع، وأصبح تأثيرها لا شيء حاليًا على الساحة السياسية في كردستان العراق، ولم تستطع الحصول حتى على مقعد واحد برلماني في مجلس النواب العراقي!

أمّا الاتحاد الوطني الكردستاني فبرز فيه نجم ابن الطالباني بافل، الذي لم يكن له أي وجود أو حضور زمن والده، ولم يكن مشاركًا في أي تطور في مسار الحركة السياسية الكردية، بل إن مجرد غياب والده كان الفرصة لمجيئه.

وحفاظًا على منصبه كرئيس للاتحاد الوطني الكردستاني بدلًا من والده، أبعد بافل كل الوجوه السياسية التي كانت مرافقة لوالده في مسار الحركة والنضال السياسي الكردي، بل أبعد حتى أبرز منافسيه في قيادة الحزب من الشباب والجيل الجديد، ورئيس الحزب المشترك مع بافل، لاهور شيخ جنكي، الأمر الذي نتج عنه اغتيال كوادر وناشطين يميلون إلى لاهور، ما أضعف الاتحاد الوطني الكردستاني، مقارنة بفترة قيادة جلال الطالباني للحزب.

بل ذهب بافل إلى أبعد من ذلك عندما صرح في بغداد في ملتقى الرافدين بأنه جاء إلى بغداد لا كمجيء جلال الطالباني سابقًا بل جاء كبافل، وهو جاء كمشروع جديد يختلف كليًا عن سابقيه، وأولهم والده جلال الطالباني!

فكّ البارزاني الكثير من العقد السياسية التي استعصت على الحل في العراق بعد سقوط النظام السابق، وكان رأس حربة تشكيل أغلب الحكومات العراقية التي تأسست بعد 2003، وحتى استفتاء كردستان الذي قاده عام 2017.

أنتج بافل بعد ذلك مجموعة اتفاقات مع أطراف شيعية في بغداد، وتحالف مع قيادات من الحشد على حساب التأثير الكردي في العراق، المتمثل بدور الحزب الديمقراطي الكردستاني ورئيسه مسعود البارزاني، إلى درجة دفعت بالقيادي السابق في الاتحاد الوطني الكردستاني ملا بختيار ليقول: “إن الاتحاد الوطني الكردستاني أصبح الآن الاتحاد الوطني العراقي وليس الكردستاني!!”.

وذلك من منطلق أن أولويته أصبحت مصالحه الشخصية والحزبية، والتي ربما تتمركز في عراقيته أكثر من كرديته، على حساب المصالح الكردية في العراق، والتي تأسّست عليها أصلًا الحركة السياسية لوالده جلال الطالباني.

لنأتِ إلى السيد مسعود البارزاني، الذي يعيش عامه الثامن والسبعين، وهو يتمتع بصحة جيدة وفي كامل لياقته السياسية، ويرأس حزبه حاليًا، ويتم التعامل معه كمرجع للقرار السياسي الكردي على المستوى العراقي، وهو الوحيد الذي بقي ممن يحمل الإرث التاريخي للحركة السياسية الكردية، والذي ورثه:

من والده المرحوم ملا مصطفى البارزاني، الذي توفي عام 1979 بعد تأسيسه وقيادته أكبر حركة سياسية كردية مؤثرة، حتى بعد وفاته.

أو من مشاركته كبيشمركة في صفوف الحركة الكردية منذ بداية شبابه، وهو في السادسة عشرة من عمره، وبالتحديد عام 1962، وحمله السلاح منذ ذلك الوقت وحتى الآن، وهو يفتخر بحمله عنوان البيشمركة أكثر من حمله عنوان الرئيس.

كما أنه مر بتجارب الحرب منذ ستينيات القرن الماضي، وتجارب المفاوضات مع الجهات المختلفة، حتى مع صدام حسين الذي أباد 8 آلاف من أقارب البارزاني نفسه، ناهيك عن 182 ألفًا من المواطنين الكرد فيما سميت بعمليات الأنفال، تفاوض معه شخصيًا، وقال البارزاني بشأن ذلك إنه مد يده لصدام حسين من أجل مصالح قضيته الكردية! وهو حامل المطالب الكردية، والفاهم للجهات التي يتفاوض أو يتحارب معها، وأخذ سمعة وشهرة كممثل للقضية الكردية على المستويات المختلفة: العراقية، والإقليمية، والدولية.

وهو الذي فكّ الكثير من العقد السياسية التي استعصت على الحل في العراق بعد سقوط النظام السابق، وكان رأس حربة تشكيل أغلب الحكومات العراقية التي تأسست بعد 2003، وحتى استفتاء كردستان الذي قاده البارزاني عام 2017، حيث لم تُشكل أي حكومة عراقية مباشرة بعد إجراء عملية الانتخابات، فالخلافات السياسية كانت تعيق تشكيل هذه الحكومات، وأغلبها كانت تتشكل بتدخل من السيد مسعود البارزاني، وجمْعِه الفرقاء في أربيل.

وهو الذي كان وراء أن يكون رئيس الجمهورية كرديًا، ودعم غريمه جلال الطالباني لذلك المنصب، ودعم أيضًا بقاءه لفترة ثانية، حيث كان هناك رفض أميركي وعربي سني، إلا أن إصرار البارزاني وتحذيره للجانب الأميركي بالانسحاب من العملية السياسية عمومًا إذا لم يبقَ الطالباني في منصبه كرئيس للجمهورية.. هذا الموقف دفع الأميركان للقبول بالأمر الواقع، وبقاء الطالباني رئيسًا للعراق.

كما أنه كان وراء منع دخول الجيش التركي من الجبهة الشمالية للمشاركة في الحرب الأميركية على العراق عام 2003، الأمر الذي لو تمّ لأصبح إقليم كردستان مهمشًا، بل في حكم المعدوم باعتبار أن القرار العراقي كان سيكون بيد الأميركان وتركيا، ولم تكن تركيا لتقبل بدور كردي في بغداد! ورفْضُ البارزاني ذلك في وقته هو الذي حفظ مكان نفوذه في العراق، ومكّن البارزاني أيضًا من حماية منطقة نفوذه، التي تشمل محافظتي أربيل ودهوك، من التدخل الإيراني الذي حصل في كل العراق بعد عام 2003.

الحاجة الكردية لوجود مسعود البارزاني أكبر من حاجة حزبه إليه، فهو صمام أمان لحل المشاكل الداخلية بين الأحزاب الكردية، والحفاظ على النفوذ الكردي في العراق.

كان للبارزاني الدور الكبير في بقاء إقليم كردستان العراق بعد سقوط صدام حسين، بعدما ثبّت بإصراره وموقفه حقوق هذا الإقليم في الدستور العراقي، رغم الضغوط العراقية الداخلية، وضغوط دول الجوار العراقي التي لها حدود مع إقليم كردستان العراق من أجل إضعاف الإقليم أو زواله.

بذهاب جلال الطالباني ونوشيروان مصطفى، فقد تركا فراغًا كبيرًا بعدهما، ويعاني الإقليم كثيرًا بغيابهما، وأكثرُ من يشعر بغياب هذين السياسيين المخضرمين، حزباهما: حركة التغيير والاتحاد الوطني الكردستاني، والسبب في ذلك هو أنهما لم يُعدّا أشخاصًا حزبيين ليحلوا محلهما، بل تركا الوضع للقدر، وربما يكون عدنان عثمان نفسه- الذي انتظر زوال هذه القيادات- قد تراجع عما كان عليه من قناعة، وربما لا، لكن سؤالي: هل عدنان عثمان نفسه بقي على نشاطه ذاته الذي كان عليه عندما كان نوشيروان مصطفى حيًا؟!

أما مسعود البارزاني، فبقي له ثقله الكبير، وأهميته السياسية والمادية والمعنوية.. وفقدانه- لا سمح الله- سيترك فراغًا كبيرًا لا يمكن ملؤه أبدًا! إلا أنه على الأقل قد مهد لمرحلة ما بعده، بتأهيل قيادات تكون حلقة وصل بين مرحلته والمرحلة القادمة، كما فعل والده ملا مصطفى البارزاني بإعداد كلا نجلَيه إدريس ومسعود للقيادة بعده، وقد فعلا ذلك. وإدريس قد وافته المنية مبكرًا، إلا أن السيد مسعود البارزاني واصل النضال، وأدى مهمته، وما زال كذلك حتى الآن، وقد بلغ من العمر عتيًا ولم يرغب بالجلوس للراحة.

الحاجة الكردية لوجود مسعود البارزاني أكبر من حاجة حزبه إليه، فهو صمام أمان لحل المشاكل الداخلية بين الأحزاب الكردية، والحفاظ على النفوذ الكردي في العراق، وكذلك صمام أمان للتواصل والاتصال الدولي والعالمي بشأن القضية الكردية، وسبب حفظ لأهم حلقة وصل بين ماضي الحركة الكردية وحاضرها ومستقبلها.. فعلى الجميع- خاصة الكرد والعراقيين- التمسك به من أجل مصلحة القضية الكردية والقضية العراقية، ومصلحة العلاقات بين إقليم كردستان وبغداد، بل وحتى مع دول الجوار.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى