لقاءات وحوارات

المفكر الإسلامي والأكاديمي الدكتور محمد حبش في حوار مع يكيتي

الدكتور محمد حبش من مواليد دمشق 1962، وهو عالم ومفكر إسلامي وبرلماني سابق وأكاديمي من سوريا
نشأ في مدرسة عمّه (والد زوجته) الشيخ أحمد كفتارو للعلوم الإسلامية في دمشق ونال الإجازة في الشريعة من جامعة دمشق وثلاث درجات ليسانس في العلوم العربية والإسلامية من جامعات دمشق وطرابلس وبيروت كما حصل على الماجستير والدكتوراه من جامعة القرآن الكريم في الخرطوم.

قامت جامعة كرايوفا الرومانية بترجمة كتابه للرومانية واعتبر مقرراً على طلبة كليات اللاهوت في الجامعة، حيث تم تسليم الدرجة العلمية الفريدة في القاعة الزرقاء بالجامعة في حفل رسمي كبير.

تبنى الدكتور محمد حبش التجديد الديني، متأثراً بشكل خاص بالشيخ أحمد كفتارو والشيخ جودت سعيد وأطلق مشروعه عبر مركز الدراسات الإسلامية بدمشق الذي أسسه وأشرف عليه، وعقد عدة مؤتمرات إسلامية لتعزيز خطاب التنوير الإسلامي، وأسس رابطة كتاب التنوير كما انتخب مرتين رئيساً لجمعية علماء الشريعة في سوريا.

صدر له 52 كتاباً مطبوعاً في قضايا التنوير الإسلامي كما اشتهر بمقالاته الجريئة في الصحف العربية، وبرامجه الكثيرة على المحطات الفضائية والإذاعات العربية.

أعلن موقفه من الأحداث في سوريا، ورفض الحل العنيف الذي تبناه النظام، ورفض كذلك التسلح الذي قام به الثوار، ودعا إلى إلقاء السلاح والجلوس على مائدة الحوار.

جاءت أفكاره صادمة للخطاب التقليدي وانتقدته الشخصيات المحافظة، فيما لاقت قبولاً كبيراً لدى الاتجاهات التنويرية والتحديثية في الإسلام، وأدى ذلك إلى سلسلة من المواجهات الفكرية في عدد من الصحف وهو يمارس الخطابة والإمامة والوظائف الدينية وينشر آراؤه في العديد من المواقع الإعلامية وكتب كثيرون عنه وعن أفكاره وآرائه.

أعدّ دراسة جديدة بعنوان كردستان: الحضارة الواثبة وهو ينتظر الناشر المناسب لإصداره.

انتخب في عام 2006 نائباً لرئيس المنتدى الإسلامي العالمي للوسطية، وهو عضو في مجلس الأمناء في الجامعة الإسلامية بإسلام آباد وفي جامعة الجزيرة وعضو في اتحاد الكتاب العرب وعدد من المنظمات الإسلامية الدولية والمحلية، كما مارس التدريس الجامعي في كلية الشريعة وكلية أصول الدين وكلية الدعوة الإسلامية والأكاديمية العسكرية العليا في سوريا وأشرف على عدد من رسائل الدكتوراه والترقيات في الجامعة الأردنية وكلية الدعوة الإسلامية.

حصل على عدد كبير من الجوائز واسندت إليه مهام كثيرة. انتقل منذ 2012 إلى الإمارات (وهو مقيم فيها حاليا) حيث عمل أستاذاً مشاركاً في جامعة أبو ظبي، في كلية الآداب والعلوم، ثم في كلية القانون، يتولى تدريس المساقات الإسلامية في الجامعة.

حاضر كأستاذ زائر في عدد من الجامعات الدولية أهمها: جامعة هلسنكي بفنلندا1998 – جامعة لوند بالسويد 2003 – جامعة كرايوفا – رومانيا 2009 – جامعة أوسلو – النرويج 2012 – جامعة روستوك – ألمانيا 2016 وجامعات أخرى.

فيما يلي نص الحوار:

السؤال الأول :

التنوير مصطلح إشكالي فيصفه البعض بأنه آفة العصـر والآخر يصفه بالخروج عن القصور العقلي ورفض الوصاية، حيث تمّ تنظيم المئات من المؤتمرات، ولم نجد تقدم مثمر في هذا المنحى، فما زال الخطاب الديني المتأزم مسيطراً حيث الطائفية والمذهبية وزيادة ثقافة التطرف، وأنتم تبنيتم مشـروعاً فكرياً عن خطاب التجديد برأيكم دكتور ما هو مفهوم التنوير الذي تستمدّون منه مشروعكم حول التجديد؟

الجواب :

أُطلق مصطلح التنوير على مساهمات الحكماء من فلاسفة أوروبا ،حين قاموا بالثورة على ظلمات العصور الوسطى بعد قرون من سيطرة اللاهوت على الحياة في أوروبا، وما نتج عن ذلك من خنق لروح الإبداع والتجديد، وامتهان لكرامة الإنسان وحقوقه.

ولعلّ من اللافت أنّ المصطلح لم يجد رواجاً في أعمال الرواد في النهضة العربية، الذين استخدموا مصطلح الإصلاح الديني، فيما رأوا في مصطلح التنوير نرجسية متعالية، حيث تقتضي وصف الآخرين بالظلام، كما أنّ الحضارة الإسلامية كانت مزدهرة خلال العصور الوسطى، ولم يكن مشروع النهضة يستهدف طمس التاريخ الحضاري للأمة بقدر ما كان يريد استنهاضها على قواعد المعاصرة والعقل.

وبعيداً عن المصطلح فإنني أتفق معك بحزن في وصف الواقع، فنحن لا زلنا نعيش في محيط متزمت، يعيش في الحاضر ويحتكم إلى الماضي، ويختار من الماضي أشده تطرفاً ولم ندرك بعد أن منطق الحياة يقتضـي ان يكون المستقبل هو المقدس وليس الماضي.

السؤال الثاني :

ماهي أبرز العقبات التي تعيق تجديد الخطاب الديني وسبل الحل؟

الجواب:

يعاني خطاب التجديد الإسلامي عموماً من قيود اللاهوت التي تمنع العقل من أداء دوره، وتفرض نفسها سلطة على العقل ترسم له حدود التفكير، وتمنعه من التفكير خارج الصندوق، وتكرّر القواعد القمعية المستمرة: قف على ما وقف عليه الأولون فإنهم عن علم وقفوا، وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في ابتداع من خلف، وكل إبداع ضلالة وكل ضلالة في النار.

وهذا الفهم القاصر للشـريعة كان يقف تاريخياً ضد كل تنوير، وضد كل تجديد، ولذلك رأينا رجال الدين يحرمون على الناس كل جديد، بحجة أنه لم يأخذ به السلف، ولعل من أوضح هذه المفارقات هو موقفهم من الديمقراطية التي اعتبرها المتشددون شركاً وكفراً، وكلنا شاهد اللافتات الكبيرة التي رفعها المتشددون في محافظات سورية تخضع لحكمهم بعنوان الديمقراطية كفر، وقد واجهت هجوماً عنيفاً من المتشددين حين أصدرت كتابي: النبي الديمقراطي، وعلى الرغم / أنهم لم يقرؤوا حرفاً من الكتاب ولكنهم اعتبروه إهانة وبدعة وشركاً، مع أنّ الكتاب يورد أوضح الأدلة على موقف النبي الكريم من الشورى والديمقراطية ومشاركة الناس في الإدارة والتشريع، وقد أوردت فيه 48 موقفاً تخلّى فيها الرسول عن رأيه وموقفه، واستجاب لمطالب الجمهور، وحاجات الناس ومصالحهم الحقيقية.

بل أنّ ذهنية التحريم كانت تطال كل جديد ولعلّ من أوضح الأدلة على ذلك موقف المشايخ من الطباعة، فحين ظهرت الطباعة في القرن الخامس عشـر، أفتى رجال الدين بتحريم طباعة القرآن، وحين طُبع القرآن الكريم عام 1507 في روما، أفتى مشايخ الأزهر والأستانة بتحريم النظر فيه وتمّ إتلافه بالكامل، وظّلت الفتوى بتحريم طباعة القرآن عدة قرون، وحين رخصت الدول العثمانية أول مطبعة في استانبول لإبراهيم منفرقة 1724م نصّ قرار الترخيص على منع طبع القرآن!! وذلك استناداً إلى أنّ ذلك بدعة في الدين، وزيادة مرفوضة في الشريعة، وظلّ التحريم مستمراً إلى أن قامت الامبراطورة الروسية كاترين بطباعة أول مصحف للمسلمين في القوقاز 1777م، ولم تتمّ طباعة المصحف رسمياً إلا في عام 1924م على يد الملك فؤاد في مصر.

والأمر نفسه في تحريم التلفزيون والهاتف والبنوك والتأمين وسفور وجه المرأة وحقها ومساواتها في العمل والكفالة والشهادة والوكالة وكثير من هذه القضايا لا تزال إلى اليوم محل جدل في أوساط التيارات المتشددة، ولا زالت المناطق التي سيطر عليها التشدد الديني في سوريا تقدم نماذج من التشدد لا يمكن تفسيرها، ولا تعبّر إلا عن غياب تام للوعي بروح الشريعة القائمة على التسامح.

إنّ مواجهة التشدد الديني لا تتمّ بالتشدد العلماني واستفزاز المجتمع، بل تتمّ بدعم التيارات المتنورة في الشـريعة، أولئك الذين يؤمنون بالشريعة ويؤمنون بيقين أنها رسالة تسامح ومحبة وأنها رحمة للعالمين.

السؤال الثالث:

لنعرج قليلاً على الجانب السياسي وأنتم كنتم عضو في مجلس الشعب السوري وشخّصتم الواقع السوري في أكثر من مناسبة ، وبالرغم من تعدد الجولات الأممية وقراراتها حول سوريا، فلا زال أفق الحل غير واضح وتزداد محنة السوريين في ظل مناطق سيطرة النفوذ وسلطات أمر الواقع…كيف تنظرون لمستقبل سوريا في ظل هذه اللوحة ؟

الجواب:

وقعت الكارثة في سوريا بسبب الاستبداد، وعدم الاعتراف بمعاناة الناس والمظالم التي ترتكب بحقهم كل يوم، حيث كان النظام يمارس قبضته الحديدية ولا يعترف بالمظالم التي تعاظمت وتعاظمت ثم انفجرت في أجواء الربيع العربي.

شخصياً لم أكن مؤيداً للثورة في سوريا، لقد كنت مؤيداً للإصلاح، وكان النظام يملك هذه الفرصة، ولكنه ضيّعها بإصراره على الحسم العسكري، وتوهّمه بأنّ الأمر صغير وسينتهي خلال أسابيع.

ولا شكّ أنّ العنف المتبادل وفّر الفرصة باستمرار لظهور الجماعات الجهادية المتطرفة وأكثرها تسلحاً وخطورة كان تنظيم داعش الذي صبغ خمس سنوات من تاريخ المنطقة بالدم والموت والجريمة.

بالطبع لا أريد أ ن أستعرض الأحداث التي يعرفها الجميع، والدور السلبي للتدخل الدولي إيرانياً وتركياً بشكل خاص، وما تلا ذلك من تدخل روسي وتحالف دولي لمواجهة داعش، وهو الواقع الذي لا زال مستمراً، حيث باتت سوريا اليوم رسمياً تحت حكم جيوش ستة، لكل ّجيش منها علمه وراياته ومصالحه، فهناك جيش تركي وجيش إيراني وجيش روسي وجيش أمريكي وجيش إسرائيلي إضافة إلى جيش حزب الله والكتائب الطائفية، زينبيون وفاطميون وغيرها، وبذلك فإنّ الحل في سوريا بات دولياً بامتياز.

الحلول باتت اليوم على موائد الدول المتدخلة وبشكل خاص أمريكا وفريق أستانة، ومن الواضح أنه لا توجد أي إرادة دولية لفرض حل على سوريا في الظروف الراهنة.

ولكن المسؤولية الأكبر تقع، من وجهة نظري، على النظام، فهو لا يزال يملك المبادرة لفتح حوار وطني ينهي الكارثة، ويجب الاعتراف أنّ ثلاثة عشر عاماً من الحرب المستمرة، أدّت إلى سقوط مليون سوري بين قتيل وجريح وسجين، وتشـريد سبعة ملايين أخرى، وخروج أكثر من 52% من الأرض السورية عن سيطرة النظام، ولكنه خلال ذلك كله لم يطرح أي مبادرة للحل إلا الحل العسكري، والاستعداد لمزيد من الاعتقال والترصد، ولم يطرح أي مبادرة تهدف حقيقةً لعودة الشعب الشـريد في دول الجوار على الأقل وهو الواجب الإنساني الأكثر إلحاحاً وإنسانية وضرورة.

لم يطرح النظام إلا الحل العسكري، ورهانه على إيران وروسيا مستمر، على الرغم من الواقع المأساوي للشعب السوري وانهيار حياته واقتصاده، وشراد ملايينه في الأرض.

إنني إذ أصرّح بهذا لا زلت مؤمناً بأنّ النظام هو الجهة الوحيدة القادرة على حل المشكلة في الداخل إذا هو طرح حلولاً معقولة تستجيب لمصالح الناس، وأعتقد أنّ أي مبادرة حقيقية ستحظى بدعمٍ دولي، وستحظى كذلك بدعم المعتدلين في المعارضة، وبالتالي ستوفّر مناخاً لعودة الحياة الطبيعية إلى سوريا.

يراهن النظام على معافاة اقتصاده وهو مستمر في طرد شعبه، واحتكار السلطة بالكامل لحزبه الحاكم، وبالتالي ستستمرّ الدول المقاطعة في حصاره، ولن يتحقّق أي شيء.

يراهن النظام على الجيش الإيراني وإيران تزداد عزلة كل يوم، وتواجه أقداراً مرعبة، وفي تحالفها مع النظام لم تقدّم للسورين إلا السلاح!!!

يراهن على الروسي وقد صرّح الروسي كل مرة أنه غير معني باقتصاد سوريا وأنه فقط مستعد لتوفير السلاح!!

السؤال الرابع :

ما هو نموذج النظام السياسي المناسب لسوريا المستقبل ؟

الجواب:

لقد طرحت في منابر إعلامية كثيرة وعبر قنوات مؤثّرة على النظام ، ومنها القناة الروسية أنّ الحل في سوريا يكون بمبادرة يطرحها النظام للتواصل المباشر مع قوى الأمر الواقع الأربعة في سوريا وهي شرق الفرات وشمال حلب وإدلب والسويداء، وعقد مؤتمر 4+1 وفيها يكون النظام مستعداً لتنازلات حقيقية والاعتراف بشكل من الإدارة الذاتية لهذه المناطق المهمشة تاريخياً، والتي لم يجلب لها حكم البعث من ستين عاماً حقوق الإنسان التي يحتاجها الناس، وتسبّب في تأخرها وهمودها، وعجز عن حمايتها من التطرف ووقف يتفرّج على المذابح التي تعرّض لها أهلها خاصة في المرحلة السوداء لسيطرة داعش.

لقد كانت كوارث رهيبة كل واحدة منها كفيلة بإشعال ثورة، والآن أصبحت الأمور أكثر وضوحاً وقد بات أهل هذه المناطق يسيطرون بشكل واقعي على الأرض منذ عشر سنين.

في مبادرة كهذه يشعر فيها الجميع بأنهم سينتقلون إلى واقع آخر، تحترم فيه حقوقهم وإنسانيتهم، وتتولّى الدولة في المركز أسلوباَ تداولياً من السلطة المركزية بمشاركة الجميع، وتقوم مؤسسات حقيقية بحماية حقوق الإنسان، وأولها المجلس الأعلى لحقوق الإنسان الذي يشارك فيه الجميع ويذهب إلى كل مكان يهان فيه السوريون لإنصافهم ومحاسبة ظالميهم.

للأسف هذه المبادرات طرحت بالتفصيل في مؤتمر صحارى قبل ثلاثة عشـر عاما وكانت قادرة على إنهاء الكارثة كلها، حيث صدرت التوصيات التي وقّع عليها نائب الرئيس فاروق الشـرع بتكليف من الرئيس وموافقة منه، ولكنها للأسف لم تجد طريقها للتطبيق وظلّت في أدراج الرئاسة وذهبنا إلى الكارثة.

إن مبادرة 4+1 تقوم على اعتراف الأربعة ببعضهم، والتوجه إلى النظام بوصفه طرفاً أساسياً في الحل، وهي نقيض تام لمبادرة 4-1 التي نادت بها منصات التفاوض المختلفة، التي ظلّت ترفع اللاءات الثلاثة في وجه النظام: لا صلح لا اعتراف لا تفاوض، ثم وافقت على التفاوض فقط لتسليم السلطة!!! وهي لا تملك من قرار التغيير شيئاً.

ويجب الاعتراف أنّ أكبر مقتل للعملية التفاوضية التي دعمها المجتمع الدولي في الرياض وسوتشـي والعملية الدستورية كانت إصرار الجانب التركي على استبعاد الإدارة الذاتية وهي أكثر قوى السوريين وضوحاً وتنظيماً وتأثيراً، ومن المؤسف أنّ قوى المعارضة في معظمها برّرت ذلك وأيّدت الطلب التركي الغاشم، وفسـّرته وأوّلته وأعطته بعداً وطنياً مقاوماً!!!

أقول ذلك بكل أسف، على الرغم من أننا حتى الآن لم نجد أي مبادرة لجمع قوى الأمر الواقع في أي سبيل، ولا زال الواقع السوري قائماً على قاعدة 1 ناقص 4 وهو ما يعني الانسداد التام لأي أفق في الحل.

إن نجاح أي جهة محلية وأولها النظام، أو دولية في تحقيق هذه المبادرة، وجمع السوريين على هذه القاعدة 4+1 سيفرض تلقائياً على الدول المتدخلة في الشأن السوري الاستجابة لإرادة الشعب، وحين يلتقي السوريون سيلتقي من حولهم المجتمع الدولي بواقع المصالح المشتركة والأمر الواقع.

السؤال الخامس:

في مقالة منشورة لكم بعنوان( اشواق كُردستان) ذكرتم ( لا أعتقد أن المثقف يستطيع حقوقياً ولا أخلاقياً أن ينكر حق الأمة الكُردية في بناء حضارتها وتاريخها ، ولا أكتم موقفي من عدالة القضية الكُردية وحق هذه الأمة المعذبة ببناء كيان حقيقي على أرضها التاريخية )… برأيكم دكتور ما المطلوب من الكُرد لترجمة الثقافة المترسخة في (أشواق كُردستان) ؟

الجواب:

لقد كتبت مراراً في المسألة الكُردية، وأعترف لك أنني مدين للشيخ العظيم معشوق الخزنوي في قدرته على شرح مظلومية هذا الشعب الكريم، وقد دفع حياته ثمناً لمبادئه، وبات في ضميرنا شيخ الشهداء.

وفي رحلاتي المتكررة للجزيرة السورية الجميلة تعرّفت إلى أهلها عرباً وكُرداً وكنت ضيفاً دائماً على الشيخ حميدي دهام الهادي الجربا، وعلى آل كفتارو وآل حقي وآل الخزنوي، وأعتقد انني كوّنت صورة حقيقية لما يمكن أن يحقّقه أبناء هذه الجزيرة الطيبة بثقافتيها الكُردية والعربية من تنمية مزدهرة ومجتمع نبيل.

قبل مائة عام وفي اعقاب الحرب العالمية الأولى وانهيار الدولة العثمانية، أعلنت عصبة الأمم أنّ العالم بات يؤمن بالدولة الحديثة وأنّ زمن الدولة القومية قد ولّى، وأنّ العالم ماضٍ إلى دولة المواطنة والحرية والمساواة.

كان القادة الكُرد خلالئذ يفرحون بهذا الوعي الجديد وكان الضمير الكُردي يتهيّأ ليقدّم في دولة المواطنة الحديثة كل ما يملكه من علوم وفنون وآداب وابتكار وتنمية اقتصادية للجميع بدون تمييز، ولكن هذه النوايا الطيبة كانت غافلة عما تتجه إليه المنطقة، ووجد الكُردي نفسه محاطاً بثلاث قوميات شوفينية عنصـرية لم تمنحه من حقوقه شيئاً، فقد تنامى المشـروع القومي الفارسي في إيران والمشـروع الطوراني التركي في تركيا، والمشروع البعثي القومي في العراق وسوريا، ووجد الكُرد أنفسهم في محيط من القوميات المتعصبة التي لا تعترف بالآخر إلا في سياق تبعية تامة، وقال لهم الترك والعرب والفرس كلمة واحدة: تكلّموا لغتنا وتخلّوا عن هويتكم وأنتم جزء من دولنا القومية!!

لقد تعاملت في المظالم الكُردية وتقدّمت من موقعي البرلماني بأكثر من مشـروع قانون لمنح الهوية للمواطن الكُردي الذي وجد نفسه على الحدود منذ خمسين عاماً لا يعترف به أحد، ولا يمنح حتى وثيقة ولادة!! ولكن هذه المشاريع كانت تصطدم دوماً بمشروع التعريب القسـري في الجزيرة وكانت تفشل باستمرار بحجة الحفاظ على الأمن القومي.

إنني مؤمن تماماً بوحدة سوريا، ولكنني مؤمن أيضاً بالحلم الكُردي في قيام دولة مستقلة آمنة، يتمّ الوصول إليها عبر تصويت برلماني يتأسّس على مصالح الناس وحاجاتهم، وليس على السلاح وفرض الأمر الواقع.

لقد شهدت بريطانيا في العام الأخير جهوداً كبيرة لاستقلال اسكتلندا عن بريطانيا على سبيل المثال، وتمّت مناقشات حامية في البرلمان، وقدّم كل فريق قناعته، ولم يقل أحد لأحد إنكم تخونون بلادكم، ولو نجح حمزة يوسف في إقناع البرلمان البريطاني بالتصويت لصالح مشروعه في استقلال اسكتلندا فسيحترم الجميع ذلك، وقناعتي أنّ ذلك ممكن في المستقبل القريب وسيكون من مصلحة الأمتين الإنكليزية الإسكتلندية.

لماذا تقوم دول مستقلة مثل جيبوتي والبحرين وسيشل ولينخشتاين وموناكو لا يزيد سكانها عن بضعة آلاف، في حين يحرم الشعب الكُردي بملايينة الثلاثين من حلم طبيعي وفطري وإنساني.

قناعتي أنّ اللحظة الآن هي الاعتراف بمظلومية شرق الفرات، وحقه في تنظيم أموره لكلّ أبنائه، وأنّ الاستقرار في المستقبل والنضوح البرلماني كفيل بأن يفهم الناس معنى قيام حلم كُردي جميل يجمع الملايين الطيبة التي تؤمن بشمس كُردستان، عبر الديمقراطية والسلام والمحية في دولة واحدة تحيي مجد الكُرد، وتتفاعل مع التنوع الاجتماعي فيها بإيجابية واحترام، وتقدّم ما يدهش العالم.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “324

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى