العلاقات الأمريكية الإيرانية بين المدّ والجزر
فؤاد عليكو
إنّ المتتبع لتطور العلاقات بين إيران من جهة، وأمريكا وإسرائيل من الجهة الأخرى، يلاحظ أنّ هذه العلاقات شهدت تخادماً متبادلاً منذ صفقة إيران-كونترا في ثمانينات القرن الماضي أثناء الحرب العراقية/الإيرانية. حيث تمّ تزويد إيران بالأسلحة الأمريكية عبر إسرائيل، رغم انقطاع العلاقات الدبلوماسية بينهم. هذا التخادم أدّى إلى تأسيس حزب الله في لبنان؛ ليكون حاجزاً أمنياً بين إسرائيل والفدائيين الفلسطينيين في جوهره. وقد عبّر عن ذلك الشيخ صبحي الطفيلي، أول أمين عام للحزب صراحةً حين قال: “وجدنا أنفسنا أننا تحوّلنا إلى حرّاس لحدود إسرائيل”، وعلى إثر ذلك ترك الحزب ، وتحوّل إلى معارضٍ عنيد لحزب الله حتى اليوم. كما أنّ إسرائيل وإيران تفاهمتا، من تحت الطاولة، على انقلاب حماس على السلطة الفلسطينية في غزة كهدفٍ مشترك لنسف اتفاقية أوسلو 1991 بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل.
أما في الجانب الأمريكي، فقد ساعدت إيران أمريكا في إسقاط النظام العراقي مقابل تسليم السلطة في العراق لحلفاء إيران من القوى الشيعية. ثم تطوّرت هذه العلاقات بشكلٍ أوضح وأكبر في عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما، إذ أفرجت إدارته عن الأموال الإيرانية المجمّدة في البنوك الأمريكية والتي قُدّرت حينها بمئات المليارات من الدولارات، ومكَّنت إيران من السيطرة العملية على لبنان والعراق وسوريا وجزء من اليمن مقابل التوقيع على الاتفاق النووي عام 2015.
في الجهة الأخرى، بدأت هذه التفاهمات تقلق دول الخليج بشكلٍ كبير، فاتجهت إلى البحث عن تحالفات مع الصين وروسيا كبدائل عن أمريكا، خوفاً من استمرار تطور العلاقات بين أمريكا وإيران. لكن هذا التطور توقّف أو حتى توتّر بعد وصول الجمهوريين إلى السلطة في عام 2016، حيث ألغى ترامب الاتفاق النووي من جانب واحد، واعتبر الحوثيين جماعة إرهابية، وتمّ نقل السفارة الأمريكية إلى القدس. كما اغتالت إدارته الجنرال قاسم سليماني في 2020، وهو يعتبر المهندس الحقيقي للمليشيات المسلحة في سوريا واليمن ولبنان والعراق ، ثم أعاد ترامب تنشيط العلاقات الأمريكية/الخليجية، حيث وقَّع مع السعودية وحدها اتفاقات عسكرية واقتصادية بلغت قيمتها 570 مليار دولار.
كلّ هذه الممارسات من قبل الجمهوريين أدّت إلى توتر العلاقات بين أمريكا وإيران، ما دفع إيران إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والعسكرية مع روسيا والصين، إضافةً إلى تعزيز قدرات حلفائها العسكريين من المليشيات في الدول المذكورة أعلاه، وتمكينهم من السيطرة على القرار السياسي في تلك الدول، كما ساعدت حماس في غزة على بناء قوتها العسكرية.
وعلى الرغم من عودة الديمقراطيين إلى السلطة ومحاولة الرئيس بايدن ترميم العلاقات المنهارة مع إيران، كإحياء المفاوضات بشأن الاتفاق النووي ورفع صفة الإرهاب عن الحوثيين والإفراج عن بعض الأموال المجمدة لإيران في كوريا الجنوبية، إلا أنّ عاملين جوهريين دخلا على خط التوتر في العلاقات بين الطرفين:
- وقوف إيران إلى جانب روسيا في حربها مع أوكرانيا في شباط 2022 ، من خلال تزويد روسيا بالصواريخ الأرضية والطائرات المسيَّرة، بالإضافة إلى تطوير تعاونهما المشترك في مجال الطاقة والنووي وتنمية القدرات العسكرية الإيرانية مع تزويدها بصواريخ S-300 ويقال بأنه تمّ تزويدهم حاليًا بصواريخ S-400.
- توقيع إيران على اتفاقية استراتيجية مع الصين لمدة 25 عاماً في آذار 2021، تشمل إحياء طريق الحرير الجديد أو ما يُطلق عليه الصين مبادرة “الحزام والطريق” بين الصين وأوروبا مروراً بإيران والعراق وسوريا ولبنان، وفرع منه بتركيا. بالإضافة إلى تأجير جزر إيرانية في البحر العربي للصين لأغراض عسكرية، واستثمار الصين ل 400 مليار دولار في إيران طيلة فترة الاتفاقية.
هذان العاملان أدّيا إلى فقدان الثقة بين الطرفين وتصلب كل منهما في موقفه بشأن العودة إلى الاتفاق النووي، وبدأت أمريكا تفكّر جدياً في إفشال المشروع الاستراتيجي للصين في المنطقة، والبحث عن بدائل له. من هنا جاءت اتفاقات أبراهام بين بعض دول الخليج وإسرائيل، والحوارات الجادة بين أمريكا لانضمام السعودية إليها مع التجاوب الأمريكي الإيجابي للشرط السعودي بحل القضية الفلسطينية من خلال مبادرة الدول العربية “حل الدولتين”.
لكن النقطة الأبرز والأهم في تفجير الوضع كانت توقيع ما أُطلق عليه “الممر الاقتصادي” لربط الهند بأوروبا مروراً بدول الخليج والأردن وإسرائيل في أيلول 2023. هذا يعني إفشال المشروع الصيني-الروسي-الإيراني “الحزام والطريق” كلياً، وكذلك ضرورة قبول إسرائيل بمبدأ حل الدولتين لإنجاح هذا المشروع الاستراتيجي الكبير.
لم يمضِ شهر على التوقيع حتى فجَّرت إيران الوضع في غزة وأوعزت لحزب الله والحوثيين بالتحرك عسكرياً في مؤازرة حماس، أملاً في خلط الأوراق وعرقلة المشروع ومن ثم إفشاله، نظراً لحساسية الصراع العربي/الإسرائيلي في الشارع العربي والذي سيفضي تلقائياً إلى وقوف الدول العربية إلى جانب حماس،إضافة إلى قناعته بأنّ إسرائيل لاتتحمّل حروب طويلة الأمد، وبالتالي سوف يرغم أمريكا نتيجة ذلك، إلى الاستعانة بإيران لوقف الحرب، وهذا ما يبقي إيران لاعباً أساسياً في الترتيبات السياسية والاقتصادية في المنطقة مرة أخرى. لكن الحسابات لم تجرِ كما توقّعتها إيران، فقد دُمِّرت غزة ودُمرت معها قدرات حماس العسكرية، وامتدّت الحرب إلى لبنان بعد غزة، وربما تمتدّ إلى كل مناطق أذرع إيران الأخرى في سوريا والعراق واليمن. وتحاول إيران الآن لملمة الوضع ومنع تمدّده حتى لا يصل إليها لهيب الصراع الدائر .
خلاصة القول إنّ المنطقة دخلت في أتون صراع كبير، لا أحد يستطيع التكهن بمداها ومدتها وتداعياتها، وبما ستؤول إليه الأوضاع فيها ، لكن كل ما يمكن قوله هو أنّ قواعد اللعبة السياسية في المنطقة قد تغيّرت ، وأننا أمام تغييرات كبيرة وغير مألوفة منذ قرن من الزمن .
والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة: أين نحو [ككُرد في الاجزاء الأربعة ] مما يحصل الآن في المنطقة؟. ذلك مايتطلّب الإجابة عليه في قادم الايام.
المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “325”