آراء

القضية الكُردية في سوريا بين ضغط الشارع الكُردي وقواه السياسية لتشكيل وفد مشترك، وتحكم حزب العمال الكُردستاني في كلّ مفاصل الإدارة الذاتية

نجم الدين كياض

إنّ المنطقة، والشرق الأوسط تحديداً، تشهد تحولات جيوسياسية كبيرة بعد حرب غزة، وتدمير البنية العسكرية لحزب الله، وقتل زعيم الحزب وقياداته الأمامية، وسقوط المشروع الإيراني مع انهيار نظام الأسد، وتقليص الدور الروسي شبه الكامل في المنطقة. هذه التحولات أدّت إلى تغييرات استراتيجية في المفاهيم والمشاريع الخاصة بالمنطقة عامةً، وسوريا بشكلٍ خاص. حتى قائد العمليات العسكرية، السيد أحمد الشرع، أعلن بكلّ جرأة، آخذاً بعين الاعتبار مصالح الشعب السوري، عن عدم صلته بتنظيم القاعدة، مؤكّداً أنّ سوريا لن تتحوّل إلى أفغانستان. هناك محاولات مستمرة لبناء تحالفات جديدة، حيث يسعى الكثيرون إلى بناء سوريا للجميع.

في 19/12/2024، خرجت مجموعة من السوريين في دمشق في اعتصام رافعين الأعلام، مطالبين ببناء دولة مدنية علمانية في سوريا. هذا يؤكّد أنّ الشعب السوري لا يقبل بتسلط فصيل واحد على السلطة ومقدراته. سوريا بعد انتصار الثورة في 8/12/2024، وبعد أن دفع السوريون بكلّ فئاتهم مئات الآلاف من الشهداء والمفقودين، إضافةً إلى ملايين المهجّرين والنازحين في مختلف أصقاع العالم، لا يمكن للشارع السوري قبول تكرار نفس النموذج السابق أو ما يشبهه. كما لا يمكن قبول إقصاء أيّ كيانٍ سياسي أو طائفة أو مكون من مكونات الشعب السوري. حتى في كتابة الدستور الجديد، لا يمكن القبول بفرض أيديولوجية محددة، كما يطرح البعض من بعض الأطراف السياسية بأن يكون دين رئيس الدولة هو الإسلام ، وأن يكون الإسلام مصدر التشريع. هذا ما لا تقبله أغلبية الطوائف ومكونات الشعب السوري. إن تمّ فرض هذه الرؤية، سيكون هناك إقصاء لعدد كبير من الشعب السوري من المشاركة في العملية السياسية وبناء الدولة. من جهة أخرى، الكلّ يترقّب أن تتحوّل الأفعال إلى أقوال في المدة التي حدّدها عند تشكيل حكومة الإنقاذ حتى 1 آذار المقبل. رغم وجود تخوفات لدى العديد من القوى السياسية السورية بمختلف مكوناتها، إلا أنّ النتائج ستظلّ محل انتظار حتى ذلك الحين.

من جهة أخرى، المؤسف أنّ جماعة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا لا تزال تمنع الشارع من ممارسة حقوقه المدنية بعد سقوط الديكتاتور. كما لم تتمكّن من إعلان فكّ ارتباطها بحزب العمال الكُردستاني (المصنف ضمن قائمة التنظيمات الإرهابية) وإخراج عناصره من سوريا. هناك تقاعس في الاستجابة لرغبات الشارع الكُردي والقوى السياسية والإقليمية والدولية المطالبة بخروج أعضاء هذا التنظيم من سوريا.

في مقابلةٍ مع السيد مظلوم عبدي، أكّد أنه في حال التوصل إلى اتفاق بين “قسد” وتركيا، سيعمل على إخراج العناصر الأجنبية للحدّ من الهجمات على شمال وشرق سوريا، خصوصاً في كوباني. هذا التصريح يعد اعترافاً صريحاً لأول مرة بوجود عناصر أجنبية في صفوف “قسد”، مما يعزّز تأكيد أنّ مَن يقود الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية هم في غالبيتهم عناصر من حزب العمال الكُردستاني.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق هو: لماذا لا يستطيع السيد مظلوم عبدي إعلان فكّ ارتباطه بهذا الحزب ومشروعه العابر للحدود؟ كما فعل السيد أحمد الشرع، في اتخاذ هكذا خطوة؟ وهو الأصح امتثالاً لرغبة الشارع السوري عامةً والكُردي خاصة؟

هذا يدفعنا إلى إجراء مقارنة قد يراها البعض غير منطقية، بين ما حقّقته هيئة تحرير الشام و(حزب العمال الكُردستاني)، إن صحّ التعبير، ومنظومته السياسية. نجد أنّ الأول استطاع في فترةٍ قصيرة إقناع العالم بمحاولة رفع العقوبات عن سوريا، وتناقش الدول الغربية، وخاصة أمريكا، إمكانية رفع هيئة تحرير الشام من قائمة التنظيمات الإرهابية. كما تمّ إلغاء المكافأة المخصصة للقبض على السيد أحمد الشرع، التي تقدّر بعشرة ملايين دولار. أما حزب العمال الكُردستاني ومنظومته، فلم يتمكّن من إقناع حلفائه والمحيطين به برفعه من قائمة التنظيمات الإرهابية، رغم دفعه لأكثر من عشرين ألف ضحية من شباب وبنات الكُرد في سوريا، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المعاقين والجرحى في محاربة تنظيم داعش الإرهابي والفصائل السورية المسلحة المتحالفة مع تركيا.

هنا، المطلوب من الشارع الكُردي بكلّ فئاته وقواه السياسية والمجلس الوطني الكُردي تحشيد كافة الطاقات وتنظيم مظاهرات للمطالبة بفكّ الارتباط بهذا التنظيم، والمطالبة بإخراج عناصره من سوريا. كما يجب المطالبة بتسليم المدن الكُردية إلى هيئات مدنية يديرها أهلها، خاصةً في كوباني وبقية المدن الكُردية، تفادياً لهجمات الجيش الوطني السوري والفصائل المنضوية تحت لوائها وبدعم من الدولة التركية، من أجل إنقاذ السكان من التهجير وتدمير بنيتها التحتية.

إنّ مطالبة “قسد” بتجييش الشارع، وحثّ المدنيين على حمل السلاح لمحاربة تركيا والمجموعات المسلحة المتحالفة معها هو تصرف خطير ومتهور يهدف إلى التحكم بالشارع وجعلهم دروعاً بشرية، وإجبار الناس على النزوح إلى مدن أخرى حيث يتمّ عسكرتهم ووضعهم في مخيمات تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة. كما لا يمكن نسيان ما حدث في غزة وجنوب لبنان من تدمير للبنية التحتية، وعشرات الآلاف من القتلى والجرحى بعد حرب طالت أمدها.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: ماذا كسب الشعب الفلسطيني واللبناني من هذه الحرب تحت اسم “المقاومة”؟

ندعو أهلنا في كوباني، خصوصاً، إلى عدم الانجرار وراء مطالب “قسد” وتصريح الرئيس المشترك لحزب الاتحاد الديمقراطي، السيد صالح مسلم، لقناة الحدث التلفزيونية في رده على الأسئلة. أقتبس منها: “ما يقع على عاتقنا في شمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية هو المقاومة. ليس لدينا سبيل آخر سوى المقاومة ضد تركيا”، كما قال، “نحن مستعدون للحوار مع تركيا دون شروط مسبقة وكلّ شيء يمكن أن يكون قابلاً للنقاش، ولكن على الحكام الجدد في دمشق أن لايقبلوا بالانتداب التركي. تركيا تحاول فرض انتداب جديد عليه، مثلما كان الفرنسيون يفعلون في سوريا”، وكذلك رده: “ونحن نتمنى أن يكون لدينا موقف موحد مع الحكام الجدد في دمشق في مواجهة محاولات الانتداب هذه”. هذا مصطلح جديد لخلط الأوراق واللعب بعواطف الشارع السوري. هذا يؤكّد بأنّ هذه الإدارة سياسياً وعسكرياً لا تجد في قاموسها الحوار العقلاني، باستخدامهم اللغة الصلبة، وعدم فكّ الارتباط وقطع الصلة بحزب العمال الكُردستاني إلا ضمن شروط مسبقة. كما نأمل من أهلنا ألا ينسوا ما فعلته “قسد” بأهلنا في عفرين والشهباء ومنبج وتل رفعت وتل أبيض وسري كانيي. بالطبع، هذا لا يبرّر تغاضي البعض عن انتهاكات بعض الفصائل المسلحة في عفرين وبعض المدن الأخرى من ارتكاب جرائم واعتقالات عشوائية على الهوية بحق أبنائه وبناته.

إذن، نستطيع القول بأنّ المفاهيم والاستراتيجيات قد تغيّرت بشكلٍ جذري بعد سقوط نظام الأسد،. مَن يظنّ أنّ المفاهيم والأساليب ستظلّ كما كانت قبل سقوط النظام، فهو لا يدرك حقيقة التغيير القادم. وقد يخسر كل ما تمّ بناءه في الفترة الماضية، كما هي حالة “قسد” والإدارة الذاتية.

إذاً، على كلّ العقلاء في الشارع الكُردي الضغط على حكومة أو سلطة الأمر الواقع، والأخذ بالعبر والدروس من الانتكاسات السابقة في المدن التي كانت تحت سيطرتها وآخرها منبج. وحدوث متغيرات جديدة بعد سقوط النظام والمشروع الإيراني في المنطقة، يتوجّب عليهم إعادة صياغة المفاهيم وفق ما تقتضيه مصلحة الشعب الكُردي في إطار سوريا دولة مدنية علمانية وتعددية، جامعة لكلّ السوريين.

أخيراً، يُطلب من جميع الأطراف السياسية والحزبية والفعاليات الاجتماعية والثقافية والسياسية المستقلة، بما في ذلك “قسد” (بعد إعلانها فكّ الارتباط وإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين والضباط الثمانية) والمجلس الوطني الكُردي وبقية الأحزاب،الانخراط في الحوار والعمل على وحدة الصف بعيداً عن الأجندات الإقليمية والدولية والمحاور الكُردستانية. وهذا لا يمنع من التواصل مع بعض الأطراف الكُردستانية، خاصةً إقليم كُردستان وزعيمه السيد مسعود بارزاني، الذي له دور كبير في تعزيز السلام والأمن والاستقرار في المنطقة وبين أبناء الشعب الكُردي والشعوب الأخرى، للتشاور فيما تقتضيه مصلحة شعبنا الكُردي، والعمل على تشكيل مرجعية كُردية تضمّ كافة الشرائح السياسية والاجتماعية والثقافية وفعاليات المجتمع المدني ونخبها. توكل لها عملية الحوار، وتتبنّى مسؤولية الدفاع عن حقوق الشعب الكُردي، وتثبيتها في الدستور الجديد لسوريا. مع الأخذ بعين الاعتبار مصالح الدول الإقليمية وشعوبها، خاصةً تركيا التي كان لها دور كبير في إسقاط النظام، وبناء سوريا الجديدة. بحكم الجغرافيا والمصالح المشتركة، ينبغي أن تتخذ دمشق مقراً لهذا الحوار بين الأطراف السورية كافة، وفتح باب الحوار مع تركيا برعاية حكومة الإنقاذ، لإزالة تخوفات تركيا على حدوده، والعمل يداً واحدة من أجل سوريا للجميع والدفاع عن وحدة أراضيها.

“المطلوب منا جميعاً الوقفة الواحدة قبل أن يفوتنا القطار، وأن نكون على مستوى المسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقنا جميعاً. كما يجب على الشارع الكُردي بكلّ فئاته رفع أصواته في حال تعذّر الوصول إلى اتفاق. عندها يجب العمل خارج الأطر والأحزاب لتشكيل وفد يمثّل الشارع الكُردي بأسرع وقت ممكن وفق ما تتطلّبه المرحلة، والتوجه إلى دمشق للعمل والحوار كما ذكرنا سابقاً.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “327”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى