آراء

وطن في مخيلة

ليلى قمر- ديرك

كانت الخطوات تقترب وتقترب، والقشعريرة تتسلّل إلى جسدي المرتعش، وكأنّ جبلاً من الجليد ينهمر جداول دمٍ ثارت على الوريد المنكل به

بلا هوادة

و تعتري الآدمية تحت وطأة الغلّ الكامن في ذلك المكنّى بإنسان

أو هكذا يظنّ المحيط بهم وكأنهم بشر كباقي البشر وهاهم منتشرين في دهاليز جحيم أتونه عاشق للدماء يشتعل ويتقد كلما شم رائحة فريسته الجديدة لتكتمل المأساة

و تلتهب ماتبقّى من نفير الجسد المتكالب عليه من أصحاب الأفئدة الصلدة الميتة أصولاً بحسب مكانتهم الرفيعة

لا أدري لمَ عادت بي مخيلتي إلى كلمات الأباء وقصص الجدّات أو ربما أختلط عليّ الأمر حتى ظننت أنّ

أمي تنادي أو أني أتوق لذلك أم أنها قد تكون مشتاقة كحالي الٱن إلى صخب أصواتنا على مائدة الطعام

ٱه ياإمي

لو كنت على دراية بما سيؤول إليه الحال لكنت دائم الرجاء لك كي تنهري وتصرخي وتؤنّبي كما شاء لك

لأني خالفتك في رأي أو لم أكن كما كنت تودّين

رغم جنون الشوق الذي يلتحف روحي إلا أنه في قلبي الممزق عتاب ولوم عليكم لأنكم زرعتم فينا بذرة الأمل عبر ما كنتم تروونه لنا

كانت كلّ القصص تنتهي بانتصار الخير على الشرّ حتى أيقنت الأيام واشتدّ العود فينا ومعه

زخرف الحلم الجميل

الوطن قدس الأقداس والروح المتلهفة لشيء متقد في جوانية حياتنا وكينوتها

نعم أمي أسطورة ربما كانت أو هي كما يجب أن تكون إنه الوطن

كم كان جميلاً لو أنّ الأوطان تبنى بالأحلام كما الأساطير القديمة

لا يا أمي هنا تعلّمت أنّ الٱباء يتلاعبون على عقول أبنائهم فينسجون لهم من القشّ الهشّ قلاعاً عديدة ويبدعون في عكس الصورة فيحوّلون أشباه الرجال إلى صناديد لا تخار لهم قوة

أه دعني أيها الٱلم استحضر كلّ تلك القصص والروايات

دعهم غائرين في الجلد المتفرقة مساماته

دعهم ثائرين في أعماقي المتقطعة تائهين في جليد دمائنا

أكاد أجزم بأنّ حكاياك أمي قد جزعت مما نحن فيه الأن وهاي تنتثر هاربة من رأسي كالسراب وسط صحراء قاحلة عبثاً تذهب محاولاتي كي أردم بها صوت الٱنين والألم حولي

استحالة أن تروي القصص جلاداً كهذا الذي يستعرض كلّ جبروته على جيف متحركة بين صولات وجولات بطولاته غير المنتهية

كانت كلماتك تزورني كما السقم الذي لايتردّد في تشويه تضاريس جسدي المنكل به كما لو أنه رداء مهترئ حقير

كم حاولت استجماع قواي لأبدو قوياً في وجه هذا السليط القبيح

فالمصير قد تمّ التوقيع عليه ولا مفرّ منه

قرّرت يا أمي

نعم قررت حتى لو كانت أخر ما تهديني إياه هذه الدنيا الفانية كزوال هذا الليل الطويل و الفجر قد استعصى عليه فكّ خيوطه و احتواء فلكه الغادر

كان المغاور كالعادة يتفنّن في نقش جبروته على أجسادنا المنتهية صلاحيتها

حاولت نعم ها أنا أحاول أستجمع كلّ مافي ذاكرتي القريبة من الرحيل

و الأنين يصدع في جوف هذا السجن اللعين

هاهو الباشق الجارح يأمر ويهدّد ويقتل ويظلم

اعترفت لنفسي بأني خجل من ولوج اليأس إلى نفسي لكنه نزيف الروح الملتهبة بين سندان القهر والذلّ

تعال تعال اقترب أيها البطل اقترب قد حان موعد الرحيل كنت على دراية بأنّ السماء والأرض بدأت تفتح لنا حدودها الشقية وأدركت أننا على أعتابها وكأنّ أحداً يسرع في كتابة

بأنّ الحقوق لا يتصدّق بها إنما تؤخذ

وأنّ الأوطان لايستحقّها المتخاذلون عنها

انتعل المغوار جسدي النحيل واعتلى صدري بسفل نعله المكتسي بدمائنا منتشياً فهي

أسعد لحظاته

وسمفونية العظام المكسّرة قد بدأت مع طقطقة فقراتها المنحلة

إنه يتلذّذ في ردم أنفاق الأجساد المقطّعة

في مكبسته الموقرة

لتتهاوى الإنسانية مع سيل الدماء المتدفّقة سفل المكبسة

ليهدأ ثوران الطاغية

ويرتوي من الدم

هذا المتعطّش لها

وكأنه أعمى

يتخبّط يمنة ويسار

أينما حلّ دمّر ونكل

لكنه عبثاً لا يرتوي

وأخيراً سنحت لي أنفاسه اللعينة بأن أتمالك نفسي أمام وجه الكريه وكانت لحظة الرحمة وهنت وهانت الأقدار علي وها هي الروح تتهيّأ للراحة الأبدية

أمي لململي من سواد هذا السجن وأقبيته حكايا طويلة ليكون الجامع لقصصك التي سوف ترويها لأحفادك علّهم يدركون مدارك الحقيقة الغائبة عن الروايات ليكونوا ذوات همم في

وطن حر لا ينال منه طيور الظلام

فلابدّ لهذا الليل أن ينجلي ليأتي الفجر بصباحه النيّر لتكون هذه السجون وقضبانها مزاراً لكلّ توّاق باحث عن بناة أوطانهم وعن حقيقة الظلم إن انتشر

ومهما علا وانتصب فوق الجماجم سيرفرف الحمام حول أثير الربيع القادم لتغور مملكة الجليد إلى أعماق الأرض وتزدهر الفصول مهما طال الشتاء وتجبر

نعم نستحقّ أن نكون أصحاب وطن حتى لو كان وطن في مخيلة معتقل.

المقال منشور في جريدة يكيتي العدد “327”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى