
المساعدة الأميركية الأمثل لسوريا هي الانسحاب منها
روبرت فورد
نشرت مجلة “فورين أفيرز” مقالة بقلم السفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد قبل إبرام الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات “قسد”، وأبرز ما جاء به هو الدعوة إلى سحب القوات الأميركية من سوريا. وتنشر اندبندنت عربية المقال هذا نظراً لأهميته. فهل يعبد هذا الاتفاق الطريق أمام الانسحاب الأميركي من سوريا؟ وفيما يلي نص المقال:
انتهت الحرب الأهلية السورية التي دامت 13 عاماً بصورة مفاجئة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما اجتاحت قوات تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة “هيئة تحرير الشام” مناطق الجنوب انطلاقاً من معاقلها شمال غربي البلاد، مما أدى إلى سقوط حكومة الرئيس بشار الأسد. وخلال أسابيع قليلة، انتهى نظام استمر ستة عقود. واليوم تتولى “هيئة تحرير الشام” بقيادة أحمد الشرع البراغماتي إدارة الحكومة السورية الموقتة، وهي في طريقها لرئاسة حكومة انتقالية سيُعلن عنها خلال الربيع. ولا يزال من غير المؤكد كيف سيتمكن الشرع من توحيد بلد متنوع ومنقسم، وما إذا كان سيكبح العناصر المتشددة داخل “هيئة تحرير الشام”، وما إذا كان سينجح في كسب دعم المجتمعات السورية الأخرى في حال تبنى نهجاً أكثر اعتدالاً وشمولية.
ومن بين الشكوك التي تواجه سوريا مستقبل الدور الأميركي داخل البلاد. فمنذ عام 2014 دعمت واشنطن حكومة ذاتية الحكم، بحكم الأمر الواقع، في شمال شرقي سوريا، تشكلت بصورة رئيسة – ولكن ليس حصرياً – من فصائل كردية. واستفادت هذه القوات التي تعمل تحت راية “قوات سوريا الديمقراطية” من الفوضى التي أطلقتها الحرب الأهلية السورية، لتشكيل كيان شبه مستقل على الحدود مع تركيا. وخاضت “قوات سوريا الديمقراطية” معارك ضد قوات الأسد والجيش التركي والميليشيات المدعومة من أنقرة، فضلاً عن جماعات مرتبطة بالقاعدة، وبخاصة تنظيم “الدولة الإسلامية” (داعش). وعملت القوات الأميركية من كثب مع “قوات سوريا الديمقراطية” لطرد “داعش” من آخر معاقله داخل سوريا. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 2000 جندي إضافة إلى متعاقدين، في نحو 12 موقعاً وقاعدة صغيرة في شرق سوريا لدعم جهود “قوات سوريا الديمقراطية” في القضاء على “داعش” وردع الهجمات التركية.
وعلى رغم هذا الدعم، لا يزال “داعش” نشطاً في سوريا. ومع انهيار نظام الأسد يمكن للولايات المتحدة أن تختار العمل مع شريك جديد من المرجح أن يكون أكثر نفوذاً وفعالية في مكافحة فلول “داعش”، الحكومة السورية الجديدة في دمشق. فمن شأن تعاون أكبر سواء كان مباشراً أو غير مباشر مع هذه الحكومة الناشئة أن يعزز الأمن الإقليمي، ويساعد في إنهاء القتال المستمر في شرق سوريا، ويسمح للولايات المتحدة بتقليل مواردها المخصصة لهذا الملف. وكثيراً ما أعرب الرئيس دونالد ترمب عن استيائه من تورط أميركا في النزاعات الخارجية، لا سيما داخل الشرق الأوسط. لذا، فإن الشراكة مع الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق ستتيح للولايات المتحدة الخروج من سوريا وفق شروطها الخاصة.
الأداة الخاطئة
يرى عدد من المسؤولين والمحللين الأميركيين أن الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا تمثل شريكاً موثوقاً لضمان ما تأمل واشنطن أن يكون “الهزيمة النهائية” لتنظيم “داعش” داخل البلاد. إلا أن قوات سوريا الديمقراطية الجناح العسكري لهذه الإدارة، فشلت في القضاء على هذا التنظيم الإرهابي الإسلاموي. فبعد ستة أعوام من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على آخر معقل لتنظيم “داعش” في سوريا، لا يزال مقاتلو التنظيم الإرهابي المذكور ينشطون في وسط سوريا وشرقها. وفي السياق عينه أثارت تصرفات قوات سوريا الديمقراطية استياء المجتمعات العربية المحلية، إذ تخضع هذه القوات لسيطرة مشددة من الميليشيات الكردية المعروفة باسم “وحدات حماية الشعب” YPG، والتي ارتكبت عمليات قتل خارج نطاق القضاء والقانون ونفذت عمليات اعتقال غير مشروعة بحق مدنيين عرب، وابتزت عرباً كانوا يحاولون الوصول إلى معلومات عن أقارب معتقلين أو يسعون إلى لإفراج عنهم، وأجبرت الشباب العرب على الانضمام إلى صفوفها، وحرفت النظام التعليمي ليتماشى مع الأجندة السياسية لـ”وحدات حماية الشعب”، وجندت مقاتلين أكراداً غير سوريين. ودفعت هذه الممارسات بعض السكان المحليين إلى أحضان “داعش”. وبالطبع، فإن هذه التجاوزات تبدو ضئيلة مقارنة بجرائم نظام الأسد، لكنها تسببت باحتكاك كبير مع السكان العرب خصوصاً في المناطق التي تعمل فيها قوات سوريا الديمقراطية تحت قيادة “وحدات حماية الشعب”.
وتواجه “قوات سوريا الديمقراطية” تحدياً آخر يتمثل في العداء المستمر بين تركيا و”وحدات حماية الشعب”، حيث تشن “وحدات حماية الشعب” هجمات بين الحين والآخر على مواقع تركية في سوريا وداخل تركيا نفسها، مما يعزز الرؤية التركية القديمة التي تعد هذه الوحدات جماعة إرهابية. وفي المقابل، تستهدف القوات العسكرية التركية والميليشيات السورية المدعومة من أنقرة “وحدات حماية الشعب” بصورة متكررة شمال سوريا. وهذا النزاع يصرف انتباه وموارد “قوات سوريا الديمقراطية” عن محاربة “داعش” في الجنوب.
ممارسات قوات سوريا الديمقراطية أثارت الاستياء في أوساط السكان العرب
في أواخر فبراير (شباط) الماضي قام زعيم كردي بارز بالدعوة إلى وقف إطلاق نار مع تركيا. هذا الزعيم هو عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعروف بـ”بي كي كي” – الميليشيات الكردية المسلحة المرتبطة بـ”وحدات حماية الشعب”، والتي تقاتل الحكومة التركية منذ فترة طويلة. أوجلان دعا المقاتلين الموالين له إلى إلقاء أسلحتهم ووقف شن الهجمات ضد تركيا. إلا أن قادة “وحدات حماية الشعب” رفضوا دعوة أوجلان، مصرين على أنها لا تشمل قواتهم. من جهتها، لا تزال تركيا غير مستعدة لتغيير سياستها أو قبول قيام منطقة كردية ذاتية الحكم في سوريا تلعب فيها “وحدات حماية الشعب” دوراً محورياً. ومنذ إدارة الرئيس باراك أوباما، حاولت الإدارات الأميركية الموازنة بين دعم الميليشيات الكردية السورية في قتال “داعش”، وبين استيعاب مخاوف أنقرة ورغبتها في استهداف قادة “وحدات حماية الشعب” ومقاتليها والمجتمعات الكردية السورية التي تحتضنهم.
هذه المظلة العسكرية الأميركية التي تحمي “وحدات حماية الشعب” من الهجمات التركية شرق سوريا جعلت الوحدات والإدارة الذاتية التي أنشأتها ترفض أية تسوية مع تركيا أو الحكومة الجديدة في دمشق. ونتيجة لهذا الوضع، بات لتنظيم “داعش” مساحة أكبر للعمل مما يكرس حال حرب لا نهاية لها.
وللحفاظ على الشراكة مع “قوات سوريا الديمقراطية” ستحتاج إدارة ترمب إلى دعم الجماعات الكردية بمعاركها المستقبلية ضد تركيا. بين عامي 2023 و2024، قامت إدارة بايدن بهدوء بمضاعفة عدد القوات الأميركية في شرق سوريا ليصل إلى نحو 2000 جندي، وذلك جزئياً لتمكين القوات الأميركية من توسيع دورياتها غرباً على طول الحدود التركية لتشمل بلدات مهمة مثل كوباني، التي لا تشهد نشاطاً لـ”داعش” لكنها تواجه ضغوطاً تركية. وخلال ديسمبر (كانون الأول) وبينما كان المتمردون السوريون يطيحون نظام الأسد، هاجمت ميليشيات متحالفة مع تركيا وطائرات مسيرة تركية مواقع كردية قرب كوباني. ومع وجود 2000 جندي أميركي منتشرين بالفعل، لن يكون ترمب في حاجة إلى إرسال مزيد من القوات الأميركية كحاجز أمام غزو بري تركي، لكنه سيحتاج إلى دعم الأكراد بمزيد من التمويل. وتعتمد “قوات سوريا الديمقراطية” على واشنطن لدفع الرواتب وتأمين المعدات والتدريب، وستصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحاً الآن، إذ باتت تركيا أكثر حرية في التركيز على الإدارة الكردية الذاتية التي تقودها “وحدات حماية الشعب”. ومع سقوط الأسد خصم أنقرة في دمشق، ستوجه أنقرة انتباهها أكثر نحو هذه الإدارة الكردية على حدودها الجنوبية.
وفي خضم هذا المستنقع من العداوات الكردية – التركية، من السهل نسيان السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى التدخل في هذه المنطقة من سوريا في المقام الأول، وهو القضاء على داعش. ولم يكن الهدف الأميركي أبداً نشر قوات في شرق سوريا للدفاع عن كيان كردي ناشئ تقوده ميليشيات كردية كانت مغمورة سابقاً. تبني هذا الهدف الآن سيمثل انحرافاً كبيراً عن المهمة الأصلية. كما أن “قوات سوريا الديمقراطية”، بسبب هويتها وطريقة عملها، أثارت غضب المجتمعات المحلية (العربية تحديداً) والحكومة التركية على حد سواء. لقد سبق لهذه القوات خلال الحرب التقليدية ضد “داعش” أن شكلت أداة مفيدة للمساعدة في استعادة المناطق التي وقعت تحت سيطرة ما سمي بقوات “الخلافة”. لكن في الحرب لكسب قلوب وعقول المناطق العربية في شرق سوريا – التي ما زال “داعش” يجند في أوساطها – فإن قوات سوريا الديمقراطية بالتأكيد ليست أداة مناسبة.
الطريق عبر دمشق
يمكن للولايات المتحدة بدل الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، أن تلجأ للحكومة الجديدة في دمشق للمساعدة والتعاون في القضاء على “داعش”. وهذا ظاهرياً وللوهلة الأولى قد يبدو اقتراحاً غريباً. فالولايات المتحدة تعد “هيئة تحرير الشام”، الميليشيات التي أطاحت الأسد وتقود الحكومة السورية راهناً، جماعة إرهابية، بيد أن هذا التصنيف إياه لم يمنع واشنطن من التعاون والعمل من كثب مع “وحدات حماية الشعب” المقربة من حزب العمال الكردستاني، الذي هو أيضاً جماعة إرهابية وفق تصنيف الولايات المتحدة. ومن المؤكد هنا أنه لا ينبغي التقليل من أهمية تشدد “هيئة تحرير الشام” وأيديولوجيتها العنفية. فأنا شخصياً حين كنت سفيراً للولايات المتحدة في سوريا قدت جهوداً أميركية في خريف عام 2012 لتصنيف جبهة النصرة، الجماعة المرتبطة بالقاعدة والتي انبثقت منها أخيراً “هيئة تحرير الشام” كمنظمة أجنبية إرهابية. وكان علينا خلال فبراير (شباط) 2012 إغلاق السفارة في دمشق بفعل تهديد حقيقي من هذه الجماعة. وخلال وقت لاحق قامت جبهة النصرة بسحق واستيعاب الجيش السوري الحر، التحالف الذي ضم متمردين مناهضين للأسد شمال سوريا دعمتهم وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية. وقامت جبهة النصرة بمضايقة الأقليات المسيحية والعلوية خلال الأعوام الأولى من الحرب الأهلية. وقاد (أحمد) الشرع هذه الجماعة عبر تغييرات مختلفة بالأسماء والمظاهر، إلى أن رست على مسمى “هيئة تحرير الشام” خلال عام 2017. على أن كثراً داخل واشنطن يشككون في أن تكون الصيغة الجديدة لهذه الجماعة ابتعدت حقاً من الإرهاب، أو تخلت عن نظرتها الأيديولوجية المتشددة وغير المتسامحة تجاه العالم.
بيد أن الشرع يصر على خلاف ذلك. لقد أمضت جبهة النصرة التي أصبحت في ما بعد “هيئة تحرير الشام” أعواماً عديدة في محاولة إبعاد نفسها من الجماعات الإرهابية الإسلامية. والشرع نفسه انفصل عن “داعش” عام 2014، ثم خاض مقاتلوه معارك دامية ضد ذاك التنظيم (داعش)، متمكنين في نهاية المطاف من طرده من شمال غربي سوريا. وانفصل الشرع علناً عن تنظيم”القاعدة” عام 2016، وقاتلت قواته ضد جماعة مرتبطة بالقاعدة تعرف باسم “حراس الدين” شمال غربي سوريا. ولم تشن جبهة النصرة ولا “هيئة تحرير الشام” أية هجمات إرهابية بعد انشقاقهما عن تنظيمي “داعش” و”القاعدة”، كما أنهما قضيا على كل محاولة من قبل هذين التنظيمين لإعادة تأسيس وجودهما شمال غربي سوريا. ويمكن القول إن أفعال “هيئة تحرير الشام” على مدى الأعوام الثمانية الماضية تصعب تبرير إبقائها على القائمة الرسمية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. كذلك حاولت “هيئة تحرير الشام” أيضاً تلميع صورتها أمام الرأي العام. فابتداءً من عام 2022 ودون التخلي عن هدفها المتمثل بتشكيل حكومة إسلامية في سوريا، بدأت بترميم بيوت المسيحيين وإعادة أراضيهم الزراعية المصادرة من قبل الميليشيات الإسلامية خلال أسوأ مراحل الحرب الأهلية شمال غربي سوريا. وقال لي قادة مسيحيون في إدلب خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2023 إن معظم الأملاك تقريباً أعيدت لهم.
independentarabia