آراء

المثقفون الكورد والخطوط الحمر

جان كورد
ثمة مثقفين قضوا فترةً طويلة من حياتهم في تلقي المعارف والفنون وفي تتبّع ما أنتجه سواهم من بني قومهم ومن الأقوام القريبة والبعيدة، وما خلّفه وراءهم القدامى من العلوم والآداب، فتميّزوا عن المواطنين الآخرين بمعرفتهم وفلسفتهم وانصب اهتمامهم على مراقبة ومتابعة ما يجري من حولهم، فكرياً وعقيدياً وسياسياً وعلمياً واجتماعياً وثقافياً، فصارت الناس ترنو إليهم وتركن إلى دراساتهم ونتاجاتهم تغرف منها وتتعلّم منها شؤون الحياة وتتغذى منها روحياً، وحتى بعد موت المثقف فإنه قد يبقى لأجيالٍ عديدة منارةً من منارات الوعي للشعوب، فيصبحون ملكاً للإنسانية كلها، ومنهم شعراء ورواة ومسرحيون وفلاسفة ومؤرخون كما منهم علماء وأطباء لم يكتفوا بالعمل في مجالات اختصاصاتهم وإنما اهتموا بالثقافة والآداب والفنون أيضاً… فحازوا على تسمية “مثقف” فالمثقف شجرةٌ تنبض بالحياة وتنتج لمن حولها غذاء الروح، وليس “شهادة” رسمية بعد دراسة ناجحة… ولكن ما قيمة الشجرة إن لم تبق لها ظلال ولا ثمرات؟
من هؤلاء المثقفين من وضع خدمة نفسه هدفاً له في الحياة، فألّف المؤلّفات العظام وكسب بها الكثير من الأموال، إلاّ أن عدم اهتمامه بقضايا شعبه أو بقضايا الإنسانية جعله شجرةً مثمرة في غابةٍ كثيفة، لا يستفيد منها الناس إلاّ نادراً، ومن المثقفين من ضحّى بكل ما لديه، بل بحياته أيضاً من أجل قضيةٍ قومية أو وطنية أو عقيدية أو فكرية اعتبرها أهم ما في حياته، ولم يتوقف يوماً حتى مماته عن التضحية من أجل قضيته الإنسانية تلك، فشتان ما بين هذا وذاك من المثقفين…
وهناك “مثقفون” لا رائحة ولا طعم ولا نكهة لما يكتبونه، فهم ظل “الأمر الواقع” على الأرض، لا يتجرؤون على اجتياز خطٍ واحدٍ من الخطوط الحمر التي يرسمها “الحاكم بأمر الله” لهم، ومن هؤلاء كثيرون مع الأسف… فهل يعقل أ لا يعلم هؤلاء شيئاً عما يجري في بلادهم من تقتيل وتهديم وتشريد وتذبيح، فلا يكتبون شيئاً عن ثورة شعبهم ويتفادون نقد الحاكم تماماً ويلتزمون باللف والدوران في الحلقات المرسومة لهم بالخط الأحمر، كما يلتزم الدراويش الراقصون بالحلقات التي عليهم الدوران فيها…؟
حاولت أن أكتب لشهرٍ واحد فقط من دون أن أتعرّض للحديث عن الثورة السورية المجيدة وعن معاناة شعبنا الكوردي في ظلها فلم أفلح، لأن ضميري لم يطاوعني في هجر الكتابة عن ذلك، واضطررت للعودة إلى الكتابة عن هذه الثورة وعن هذه المعاناة، كما فعلت منذ اندلاع الثورة. وأستغرب كيف يكون لنا هذا العدد الكبير من “المثقفين” الصامتين كشواهد المقابر، الذين تمكنوا من ألاّ يتحدثوا عما يجري في سوريا من مآسي عظيمة وألاّ يقولوا للظالم يا ظالم ولو مرّة واحدة؟
نعم، إنهم يكتبون عن كل شيء إلاّ عن طغيان المجرمين الكبار الذين دمروا سوريا وأذاقوا شعبها الذل والهوان، فلديهم مجالٌ لقول الشعر الجميل عن الورود والحسناوات والغربة وعن شعراء وأدباء العالم الفسيح الكبير، بل عن شمال وجنوب وشرق كوردستان، وعن كورد هذا المهجر وذاك، وعن كل الدنيا، إلاّ أنهم يظلون أسرى الخطوط الحمر التي وضعها لهم كالقيود في أيديهم وأرجلهم طغاة بلادنا وحكامها الذين فاقوا جنكيزخان ونمرود ونيمرود وهولاكو في ارتكاب المذابح والجرائم ضد الإنسانية…
والأغرب من هذا كله، هو أن بعض الأحزاب والمنظمات لا تكتفي بإعلاء شأن هذه النماذج المدجنة والديكة التي لا تغادر مزبلة دار الحاكم، وإنما تقرّبها وتمجدها وتغدق عليها بالألقاب والهدايا والندوات والجوائز، ويتفنن المادحون في مدح نتاجاتهم وعلو مقاماتهم و”التزامهم الخلقي الكبير” بالثورة… ولكن أي ثورة؟ أعتقد أنهم يعنون ضمناً بالثورة المضادة التي وقودها جنود النظام وشبيحته ومجرموه وجلادوه …
المثقف الكوردي الذي يتجاوز الخطوط الحمر للنظام الآثم، ولا يتقيّد بضوابط السياسة الرفاقية للحزب المطهّر الذي ماؤه عذب ورئيسه معصوم وسياسته تقود إلى نور الأزلية، ليس “مثقفاً”، بل ليس من هذا الشعب، وليس له الحق في أن يتمتّع بخيرات الأمة المطهّرة على الأرض الطاهرة، وهو أدنى من أن يراه الحزب ويهتم به، أو لا يستحق حتى دعوته إلى وليمةٍ أو عزاءٍ أو ندوة نقاش، بل إنه ليس كوردياً …
ومع الأسف، هذه سمة من سمات حياتنا السياسية اليوم، حتى بعد أربع سنواتٍ من “الثورة” وبعد أربعين سنة من الكلام الكاذب عن “الديموقراطية والحرية!”… فالخطوط الحمر لاتزال كما كانت وتتحرك ضمنها قوافل “المثقفين” على مركبات الأحزاب الموالية بشكلٍ أو بآخر لنظام الموت في بلادنا…

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى