آلام جان دوندار
هوشنك أوسي
حين بدأت، في 2008، حملات حكومة حزب «العدالة والتنمية» على الطبقة الكمالية العسكريتاريّة – العلمانيّة، أطلق الكاتب والصحافي التركي جان دوندار فيلمه الوثائقي المهم «مصطفى»، في يوم تأسيس الجمهوريّة التركيّة المصادف 29 تشرين الأول (اكتوبر). وكان ذلك تحدّياً كبيراً غير مسبوق، لأنه حاول رفع القداسة والتأليه عن شخصيّة مصطفى أتاتورك، وتناول تجربته، كما كانت، إنساناً عاديّاً، يعاقر الخمر، ويعاشر النساء، قصير القامة، هزيل الجسد… الخ، بالضد من كل البروباغندا التركيّة التي عظّمت وفخّمت صورة الزعيم، وغرست ذلك في أذهان الناس، عبر مناهج التربية والتعليم، والإعلام، على مدى عقود. وحين عُرض الفيلم، ثارت ثائرة العلمانيين الأتاتوركيين والقوميين المتطرّفين على دوندار، واعتبروا فيلمه تطاولاً على مؤسس الجمهوريّة التركيّة والعلمانيّة. وطالب رئيس حزب «الشعب الجمهوري» السابق، دنيز بايكال، بإيقاف الفيلم ومحاكمة صاحبه! حينها، كانت حكومة «العدالة والتنمية» ورئيسها أردوغان مغتبطين بهذا الفيلم. ليس هذا وحسب، بل ساعدت الحكومة دوندار في الاطلاع على مذكّرات أتاتورك، المحبوسة في هيئة الأركان العامّة منذ موته عام 1938، كي يستفيد منها في إعداد فيلمه الوثائقي، ما يعني أن الحكومة التركيّة التي تسجن دوندار الآن وتعتبره خائناً، خصّته عام 2008، بما لم تخصّ أيّاً من الكتّاب الأتراك، الإسلاميين منهم والعلمانيين! وهذا ما دفع كتّاباً أتراكاً آخرين لمطالبة الرئيس التركي السابق، عبدالله غُل، بالسماح لهم بالإطلاع على المذكرات.
جان دوندار، رئيس تحرير صحيفة «جمهوريت» ومدير مكتب الصحيفة في أنقرة، أردم غُل، مسجونان منذ 26/11/2015، بتهمة «التجسس» و «إفشاء أسرار الدولة»، لأن دوندار نشر في أيار (مايو) من العام نفسه، تسجيل فيديو يظهر شاحنات تابعة للاستخبارات التركيّة، وهي تنقل، مطالع 2014، الأسلحة للكتائب الإسلاميّة الإرهابيّة المتطرّفة في سورية.
أردوغان، وقتذاك كان يرأس الوزارة، فاتهم دوندار بـ «الخيانة» وأنه «سيدفع الثمن». وفي حال أثبت القضاء التركي هذه التهمة عليه، سيواجه عقوبة مدّتها عشر سنوات سجناً.
دوندار، بصفته من أبرز قادة الرأي، كاتب ليبرالي، علماني، انتقد بشدّة «العمال الكردستاني» لكنه دعا الى حلّ القضيّة الكرديّة سلميّاً، بعيداً من الحرب والعنف. اعتقال هذا الكاتب تفصيل بسيط عن الإرهاب السياسي والنفسي الذي تمارسه حكومة «العدالة والتنمية» في مسعى لكمّ الأفواه. ومحنة دوندار، ككاتب ومثقف تركي، تجاهلها المعارضون السوريون، «الليراليون والديموقراطيون» منهم قبل الإخوانجيين – الأردوغانيين. وحجّة هؤلاء: «هذا شأن داخلي تركي. ما شأننا نحن السوريين به»؟! هذه الحجّة نفسها، يسوقها هؤلاء حيال صمتهم على ما ترتكبه آلة الحرب الأردوغانيّة من قتل وتدمير وإرهاب بحق المدن الكرديّة والمدنيين الكرد في كردستان تركيا، بحجّة محاربة «العمال الكردستاني».
وإذا كان تجاهل المعارضة السورية و «نخبها» لآلام ودماء المدنيين الكرد، يشتمُّ منه «عبق» النزوع العنصري، عبر إحراق الكرد بجريرة علاقات «الكردستاني» بالنظام السوري، فأقل ما يُفترض بهؤلاء المعارضين، ولذرّ الرماد في الأعين، التضامن مع ضحايا أردوغان الأتراك؟! أمّا النأي بالنفس، واختلاق الاعذار والمبررات من طينة هذا «شأن داخلي تركي» فعذر أقبح من ذنب.
وهذا العُذر يؤكد أن أردوغان اشترى صمتهم وذممهم. ذلك أن هذا «المبرر الوقح»، يشرعن عدم تضامن الأميركيين والأوروبيين والأتراك والفرس…، مع محنة الشعب السوري وآلامه، باعتبار أن ما يجري في سورية من مذابح «شأن داخلي سوري»!
الاتيان بحجّة علاقة «الكردستاني» بالنظام السوري لتبرير صمت المعارضة السورية على جرائم الحكومة التركيّة بحق الكرد سقوط أخلاقي قبل أن يكون سقوطاً سياسياً. فهذه المعارضة تتناسى أن أردوغان نفسه كان عرّاب نظام الأسد دوليّاً، طيلة عقد، قبل اندلاع الثورة السوريّة. وقد أعاد أردوغان تأهيل هذا النظام، وقدّمه للغرب، بعد سحقه ربيع دمشق! وحاول عقد صلح بين «الإخوان» والنظام، وبين الأخير وإسرائيل!
ثم إن الصمت حيال محنة جان دوندار وأمثاله الكثر من سجناء الرأي، وحيال حكم تركيا في شكل استبدادي عسكريتاري، هو أيضاً سقوط أخلاقي وسياسي مريع وفاضح، يعزز موقف نظام الأسد، من حيث لا يحتسب هؤلاء «المعارضون»، ويشير إلى أن هذه المعارضة، هاجسها فقط الاستيلاء على السلطة، وليس التبرّؤ من ذهنيّة وإرث نظام البعث.
كذلك فالقوى الكرديّة السورية، ابتداءً بـ «الاتحاد الديموقراطي» و «المجلس الوطني الكردي» وما بينهما من أحزاب، مضافاً إليهم الكتّاب والمثقفون الكرد، فإن تجاهلهم لمحنة وآلام دوندار، هو أيضاً سقوط أخلاقي وسياسي مدوٍ.
وبدوره فجان دوندار ما زال يقاوم سلطة أردوغان بالكلمة والكتابة، ويكتب مقالاته من داخل سجنه!
* الحياة