من الصحافة العالمية

عرب وأكراد و… رضوخ للرهاب «الفايسبوكي»

يكيتي ميديا
هوشنك أوسي
الوضع السوري، كان وما زال، بالغ التعقيد لجهة التشابكات والاشتباكات القوميّة والدينيّة والمذهبيّة، وحتى المناطقيّة. جاءت الثورة لتفتح «كوّة» أمل بخصوص تفكيك هذا التعقيد، وصولاً إلى إيجاد منفرج سياسي – ثقافي دستوري له، يكون الحاضن الوطني المنصف لكل الهويّات السوريّة المتداخلة. لكن النظام الأسدي، بما تركه من إرث ثقيل وشديد الوطأة في الذهن والسلوك لدى معارضته، ورفع النظام مستوى توحّشه الإرهابي إلى الحدود القصوى، وتدخّلات دول الإقليم، وإذكائها نيران ومظاهر التطرّف والإرهـاب الديني، كل ذلك أدّى إلى ابـتـلاع هـذا التطرّف للحراك العسكري السوري المعارض.
وسط هذه المناخات المسمومة أصبح منطق وذهنيّة التخوين سيّد المواقف المعلنة والمبيّتة والمسبقة أيضاً، على حساب تراجع مساحة العقل، حتى صرنا نرى انزلاقاً من النخب الثقافيّة نحو الشعبويّة، تحت ضغط حالات الرهاب والذعر الذي باتت تشكّله موجات النزوع المتطرّف، بما فيها ما تحمله شبكات التواصل الاجتماعي.
لذا صار في حكم العادة أن نرى بعض المثقفين السوريين، عرباً وكرداً، يتعرضون للترهيب في حال الوقوف على الضد من الميل الشعبوي القطيعي الموتور لهذا الطرف ضدّ الشريك أو الطرف الآخر!
هذا الترهيب «السُّعار» الفيسبوكي، من المؤسف القول إنه أصابَ أداء المثقف في مقتل، وقَلب المعايير لدى العامّة، بحيث باتت توصف المواقف العقلانيّة الوطنيّة كـ «دونيّة، خذلان، خيانة، استرضاء، إذعان…»، إلى جانب تسويق التهييج والتثوير والتأليب وقصف مناطق العقل والتفكير السليم بالشعارات التي تقدّم الإجرام كبطولات قوميّة ودينيّة ومذهبيّة. وهذا النسق من البطولات الوهميّة عادةً ما تنتعش وسط البيئات الأيديولوجيّة الزائفة، بكل ما فيها من خرافات وترّهات وخداع للعامّة، في زمن الحروب والصراعات والأزمات. وعليه، يمكن أن نلحظ بوضوح تفشّي واستشراء نماذج من المثقّف أو الأديب أو السياسي، العُصابي المحتفي بعريه، في وصفه قمّة الأناقة القوميّة والوطنيّة أو الدينيّة.
مناسبة هذا الكلام، ردّ فعل الكثيرين من الكتّاب والمثقفين والنشطاء العرب السوريين على تصرّف فردي، قام به شاب، عبر رفعه العلم الإسرائيلي في التظاهرة الاحتجاجيّة التي شهدتها مدينة كولن الألمانيّة يوم 14/5/2016، ودخول هؤلاء مجدداً دوّامة التخوين والتأليب القديمة – الجديدة، لجهة تصوير الأكراد «خونةً، عملاء» وتكرار الأسطوانة الممجوجة إياها التي تعود بجذورها إلى مطلع الستينات، حيث إن منح الأكراد حقوقهم أو حكماً ذاتياً أو فيديرالياً أو تشكيلهم أي كيان مستقلّ، هو «إسرائيل ثانية» في المنطقة.
وغالب الظنّ أن التوضيح الشخصي الذي نشره كاتب هذه الأسطر، على صفحته الشخصيّة في «فايسبوك» وكشف ملابسات الحادث، وكيف أن اللجنة المنظّمة غير مسؤولة أو معنيّة به، لم ولن يزيل حالة الاحتقان الموجودة أصلاً، والتي تعود بجذورها للمورث والحقن البعثي – الأسدي على مدى عقود.
من جهة أخرى، هوجم هذا التوضيح في شكل موتور من بعض المتطرّفين والمزايدين، وحتى بعض السماسرة في حقل السياسة والثقافة الكرديّة، وأخرجوه من سياقه وقدموه كـ «اعتذار» و «دونيّة» و «محاولة استرضاء العرب…» إلى آخر هذه الترّهات.
هذا التراشق كشف عن مدى فداحة المواقف المسبقة والمبيّتة من الجانبين، ومدى هزال وركاكة الموقف الثقافي الذي يهاب الرهاب الفكري واللفظي الذي بات السمة الغالبة لمستخدمي مواقع التواصل. بالتوازي مع ذلك، كشف هذا الاختناق الثقافي – السياسي، مدى التخبّط في استخدام المفردات والاصطلاحات، فهماً وتوظيفاً، أثناء بناء الأحكام!
وقد ظهر نوع متضخم من النكاية بين الأطراف المتراشقة، فيما كل طرف يتحدّث عن ضرورة احترام الآخر لحساسيّته، حتى أن الإخوة العرب السوريين، وأثناء إبدائهم حساسيّتهم تجاه حادثة رفع العلم الإسرائيلي الفرديّة، ظهروا وكأنّهم «فلسطينيون» أكثر من أهل غزّة والضفّة الغربيّة والقدس الذين يواجهون إرهاب النظام الإسرائيلي يوميّاً! والحقّ أن ربط الأكراد وحقوقهم بإسرائيل سلوك بعثي – أسدي بامتياز. ذلك أن النظام السوري ومعارضته، قبل اندلاع الثورة، كان لديهم الموقف السلبي والعنصري ذاته من كردستان العراق، وبما يتجاوز موقف العرب العراقيين أنفسهم! وعليه، فردّ الفعل ذاك خلق انطباعاً بأنه لم يكن حبّاً بفلسطين والفلسطينيين، وكرهاً لإسرائيل، بل كرهاً للأكراد!
بعض الأكراد أيضاً، نخباً وعامةً، انزلقوا إلى درك أقرانهم العرب نفسه، سبّاً وإهانة ونكاية. وظهر نسق من المديح المباشر وغير المباشر لإسرائيل، مبتذل ورخيص، لا يستند إلى أيّ أرضيّة معرفيّة وتاريخيّة متينة ومتوازنة. ذلك أن إسرائيل متورّطة في الدم الكردي، بدليل وقائع وأحداث ليس أقلّها اختطاف أوجلان، ومعاضدة النظام التركي منذ ما يزيد عن ثلاثة عقود في حربه.
ولا يعلم من يسوّق لرفع العلم الإسرائيلي أنه يسوّق لتركيا، إذ هنالك تحالف استراتيجي بين أنقرة وتل أبيب. ثم، من يرفع العلم الإسرائيلي «نكاية بالعرب» يخدم النظام الأسدي الذي هو خادم ذليل لإسرائيل، كما انكشف في السنوات الخمس الأخيرة. كذلك فهذا السلوك يخدم الدعاية البعثيّة – الأسديّة – العفلقيّة المشوّهة للكرد وحركتهم التحرريّة.
إن حالة التخوين والتشنّج عرض من أعراض تركة نظام البعث – الأسد. أما مطالبة الأكراد باحترام حساسيّات الإخوة العرب، فيجب أن يقابلها احترامهم لحقوق الكرد ومطالبهم المشروعة، ولحساسيّتهم حيال العلم التركي، ورفض إرهاب الدولة الذي تمارسه أنقرة لعقود بحقهم. أو على الأقل، عدم تبرير وشرعنة هذا الإرهاب. فعلى الإخوة العرب عدم تفضيل تركيا على الأكراد السوريين، شركاء الوطن والتاريخ والمستقبل، تماماً كما كان يفعل نظام الأسد، قبل الثورة، حين كاد يعبد تركيا.
الحياة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى