«داعش» هوليوودهم الواقعي… ونفسنا التي لا نعرفها
حازم الامين
لـ «داعش» جذر غير شرقي، هو جزء من شبكة جذور يتشكل منها التنظيم، ويختلف فيها عن أشقائه، التنظيمات العنفية و«السلفية الجهادية». كما أن «السلفية الجهادية» أضعف المركبات التي يتشكل منها تنظيم «دولة الخلافة»، ذاك أن السلفية انحازت إلى جماعة «النصرة» وابتعد مشايخها عن الإفتاء لـ»داعش».
الأصل غير الشرقي لـ»داعش» هو ذاك البعد المشهدي والتراجيدي. فالقتل المصور والمُكثف بالصور يتصل بثقافة غير محلية. يتضح ذلك أكثر عندما نعلم أن لتكثيف القتل عبر تصويره وإعطائه عمقاً ملحمياً، دوراً في مسيرة الجماعة. للهلع الذي تُخلفه الصورة وظيفة. فهو ما سبق «داعش» إلى سنجار التي انهارت دفاعاتها بسهولة، وسبقها أيضاً إلى دير الزور فسلمت المدينة نفسها. والحال أن جعل الصورة جزءاً من نشاط دموي وإجرامي أمر مستدخل على ثقافة «السلفية الجهادية». «القاعدة» «البنلادنية» لم يسبق أن وظفت الذبح في نشاطها. لا بل عابت على أبو مصعب الزرقاوي مغالاته في الذبح المصوَّر. وإذا كان الأخير من افتتح زمن الذبح كـ»تقنية جهادية»، فقد قُتل قبل أن يحوله من ذبحٍ للأفراد إلى ذبح لـ»الجماعات».
«داعش» هوليوودية أيضاً، لا بل إنها تمكنت من نقل خيال العنف الهوليوودي إلى مستواه الواقعي. فالبريطاني الذي ذبح الصحافي الأميركي جيمس فولي، والذي كان يرطن الإنكليزية بلهجة لندنية، حرص على أن يُخلف مشهد الذبح المُصور ذعراً لطالما اقتربنا منه في الأفلام الهوليوودية. لا بل إن الفيلم الدعائي الذي صورته «داعش» قبل أشهر عن نفسها في مدينة الفلوجة العراقية، أعادت فيه تصوير مشاهد من المدينة مستعينة تماماً بمشاهد أخرى كانت عرضتها هوليوود في فيلم «البحث عن بن لادن».
الفارق أن هوليوود خيال و»داعش» حقيقة، وهو فارق هائل صنعته جذور غير غربية للتنظيم الدموي. فهوليوود تخاطب غير الممكن وغير الواقعي في الوعي الغربي، فيما «داعش» جعلت غير الممكن ممكناً، وهنا تكمن جاذبيتها بالنسبة إلى أشقياء غربيين قَدموا من أوروبا إلى سورية والعراق. فبالنسبة إلى هؤلاء أتاحت «داعش» أن يحولوا عنفاً افتراضياً ومشهدياً، إلى عنف حقيقي وواقعي. وكم نجد لهذه المعادلة أثراً في جرائم عادية حصلت في المدن الأميركية، أقدم عليها قاتل متسلسل أو طالب في مدرسة أو جندي سابق.
لكن «داعش» استقدمت جذور إجرام أخرى. فهي استجمعت القابلية للعنف وللقتل من كل المصادر. وهو عنف مجرد من أي قيمة وأي معنى. عنف فقط، ولا شيء غير العنف. انتزعت من البعث عنفه وقابليته للقتل، ومن العشائر نزعاتها الثأرية وضغائنها القديمة، ومن الصحراء قسوتها وخشونتها. وهي بهذا المعنى ظاهرة «برانية» لا تضرب جذورها بغير أفعالها. وهذه منتهى «الحداثة الدموية»، ذاك أن الأخيرة تستعين بكل شيء من دون أن تكون مخلصة له. تستعير من الغرب حداثة آلة القتل، ومن العشيرة شكيمتها، ومن البعث ضغائنه، ثم تعود لتقتل الغرب بآلته، ولتطعن العشيرة بأبنائها، ولتعدم الضباط البعثيين الذين قاتلوا إلى جانبها من دون أن يُصبحوا جزءاً منها.
هذه الهوية المُشكّلة من عناصر شديدة الانفجار هي ما يولد كل هذا الموت. عنف «السلفية الجهادية» «البنلادنية» يبدو بسيطاً حيالها، فهو مركب من عنصرين: «الجهادية» بصيغتها الفلسطينية، والسلفية بصيغتها الخليجية. الزواج بين هذين العنصرين أنجب تنظيم «القاعدة». من الواضح أن «داعش» مسألة أخرى. العنف بنموذجه العراقي جزء من هذه الهوية القاتلة، والعشائر المُهمشة أيضاً، والضغائن المذهبية تتقدم في هذه الهوية على أي وجهة عنفية أخرى. وهي هوية بلا ماضٍ، من دون أن يعني ذلك نفي الأصل الثقافي والتاريخي لهذا العنف. فالماضي معطى منسجم في الهويات، بينما الماضي في هوية «داعش» غير منسجم وغير قابل لأن يتعايش مع نفسه.
ثمة شيء يشبه انتحار الأشرار. السائر إلى موته يريد لغيره ميتة أشد ألماً، ويريد أن يُلوث وعي الناجين بمشاهد موتهم المحتمل. لا تدعي «داعش» أكثر من ذلك. لا تريد لأحد أن يقتنع أو أن يقبل، تريد بث الخوف فقط، وهي لا تلوح بالموت لكي يعتبر من لم يعتبر. هي تُقدم على الموت ولا تلوح به، والأسباب سابقة على حياة من تقتلهم. الأيزيديون يجب أن يُقتلوا لأنهم أيزيديون قبل أن يولدوا. لا وقت لديها لإعفائهم من الموت، ففي الطريق من الموصل إلى أربيل يجب أن يموت الجميع. لم يجر ذلك بموجب خطة، إنما جرى لأن واقعاً يمكن أن يتحول خيالاً وليس العكس. فما نُقل عن الناجين الأيزيديين من روايات عن المجزرة يجعلك تشعر بأن كليشيه «تحويل الخيال إلى واقع» انقلب ليصبح «تحويل الواقع إلى خيال».
إلى هذا الحد تبدو «داعش» غير حقيقية. فالتدرج من مشاهد القتل الفردي المصور الذي باشره الزرقاوي، إلى مشاهد القتل الجماعي المُصور أيضاً، ترافق مع استدخال مكثف للخيال الهوليودي، ومع توظيف هائل لطاقات الكراهية التي تُضمرها صحراء الأنبار لنفسها ولأبعاضها، وهذا كله يُنتج موتاً واقعياً لكنه غير قابل للتصديق.
وإذا كانت «داعش» بهذا المعنى غير حقيقية، إلا أنها، بهذا المعنى أيضاً، موجودة في كل واحد منا. ذاك أننا نعيش في زمن نحن معرّضون فيه لأن يستيقظ غير الحقيقي في أنفسنا. هذا اللاوعي الشقي الذي لم تتمكن مجتمعاتنا البائسة من معالجة صدوعه. فـ»داعش» على ما كشفت الوقائع ليست قواماً ذهنياً تشكل في مسجد أو من خبرة أو قناعة، بل هي استيقاظٌ مفاجئ لشقاء قديم غير مُدرك. فجأة وجد الرجل نفسه عنصراً في «داعش». فجأة اكتشف أن الأيزيديين «يعبدون النار» وأن جيرانه المسيحيين في الموصل «أهل كتاب» يجب أن يدفعوا الجزية أو أن يتحولوا إلى الإسلام. وفي الـ»فجأة» هذه تكمن دموية «داعش» وتكمن غير حقيقيتها، أي في أنها ليست امتداداً لشيء نعرفه عن أنفسنا، وأنها تكمن في شيء لا نعرفه عن أنفسنا.
أما هؤلاء الأشقياء الغربيون الذين يُصوروننا بكاميراتهم كقتلة وكمقتولين، فقد جاؤوا للاشتراك في مشهد ظنته هوليوود خيالياً، فجعلناه لها حقيقياً… فأي سعادة هم فيها الآن!.