التخبطات التركية الأخيرة
عبدالصمد داوود
تعرضت تركيا ومنذ أكثر من ثلاث سنوات إلى انقلابات متتالية كان آخرها انقلاب منتصف تموز , ولكنه لن يكون الأخير … وقد اتخذت تلك الانقلابات أشكالا متباينة , ومرت جميعها بصمت , ما عدا الأخيرة والتي واكبتها حراك كبير وصراخ اعلامي وتهويل مصطنع في أغلب مفاصلها .. وحيث أن مدير ومدبر كل الانقلابات شخص واحد لم يتغير فقد جاءت السيناريوهات استنساخية بالتمام والكمال …. .
منذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم , مرت بثلاث تحولات مهمة : فترة الاندفاع .. فترة المراوحة .. فترة التراجعات … .
لقد تميزت فترة الاندفاع بوضع اللمسات الأخيرة على ما يمكن أن نسميه الاستراتيجيات الأربعة :
ــ المشاكل صفر .
ــ الحفاظ على العلمانية وترسيخ الديموقراطية .
ــ الحل السلمي للقضية الكردية .
ــ وأخيرا دعم الشعب السوري وثورته .
لكن التكتيكات غلبت الاستراتيجيات .. حتى أننا نستطيع أن نجزم بأنه لم يعد لتركيا أية استراتيجية سياسية واضحة المعالم , بل تكتيكات لا تحمل أية معايير سياسية بل إنها ردًات فعل وتخبطات ….. .
ــ فمن / المشاكل صفر / إلى عشرات المشاكل الداخلية والخارجية والتي تنشطر وتستفحل يوما بعد آخر , وإن التكتيكات التي وضعت ومورست لتحقيق ذلك الهدف ولًدت مع الأيام مشاكل مضاعفة ولم يبق ذكر لذلك الشعار الذي صفق له كل الشعوب في تركيا .
ــ كيف يمكن الحفاظ على العلمانية وهناك تناغم واضح مع داعش ومنذ تكوينها وربما حتى الآن , وما مجريات ( تحرير ) جرابلس إلا إحدى تجلياتها , وقد كانت عملية استلام وتسليم بين تابع ومتبوع ليس إلا … ؟؟ .
كيف يمكن الحفاظ على العلمانية والإطار العام للسياسة التركية الداخلية والخارجية هو معاداة كل التوجهات غير الإسلامية , أو الإسلامية التي لا تروق لها , حتى لامست معاداتها دولا أخرى وما زالت تنسج على نفس المنوال ؟؟ .
كيف تُرسًخ الديموقراطية وكل الدلائل تشير ( داخل قيادة الحزب الحاكم ) إلى دكتاتورية ناعمة يمارسها / أردوغان / ضد كل من يخالفه في الرأي , ومعروف للجميع أن مصير عبدالله كول وأحمد داوود أوغلو من تجليات تلك الممارسات ؟؟؟ .
كيف يتم ترسيخ الديموقراطية ونحن أمام حصار وتطويق حزبٍ دخل البرلمان بجدارة وبطرق قانونية لا غبار عليها .. ؟؟ ثم وباندفاع واقتدار يعمل على شطب ذلك الحزب وبكل أساليب التهديد والتضليل والديماغوجية واستغلال النفوذ … .
كيف يمكن ترسيخ الديموقراطية في حين تمارس أقصى استغلال للانقلاب الأخير والذي كان أشبه بمسرحية مفبركة , لتطال يد القمع والاعتقال والسجن .. ليس فقط أتباع / غولن / بل ليشمل عشرات الآلاف من سلك الجيش والقضاء والصحة والتعليم وحتى الرياضة .. .
ــ لا ننكر أبدا على حكومة العدالة والتنمية كأول حكومة تخطو خطوات أولية جيدة تجاه الشعب الكردي في كردستان الشمالية , كفتح المجال أمام التعليم باللغة الأم وإعادة الأسماء الكردية للقرى والأماكن التي تمت تتريكها وفسح المجال لنشاط سياسي كردي ضمن أطر محددة , ولكن طيلة عمر الحزب الحاكم وحتى الآن لا توجد خطوة عملية واحدة جادة لحل / معضلة / القضية الكردية سياسيا … ولم يشرًع قانون واحد يمهد الطريق لحل القضية .. وكل الوعود ذهبت أدراج الرياح بفعل الدكتاتورية الناعمة والمراوغة والتهرب من أية استحقاقات .
لقد جرًبت الحكومات التركية السابقة وطيلة تسعين عاما الحل العسكري بدلا من السلمي .. حل استعمال القوة بدلا من استعمال العقل .. حل اطلاق الطائرات والدبابات بدلا من اطلاق المفاوضات والحوارات … فماذا جنت ؟؟ لا شيء سوى الدمار وقوافل التوابيت … بعد مرور حوالي القرن ألم يحن بعد وقت المراجعة الجذرية لسياسة حمقاء كانت متبعة وما زالت ؟؟.
ــ بعد الثورة السورية مباشرة هبًت نسائم الأمل من الشمال , وقالت قيادة تركيا مرارا وتكرارا .. جهارا نهارا أنها لن تقبل بحماه ثانية , وما أن دخلت داعش على الخط في العراق وسوريا حتى بدأت السياسة في تركيا تتأرجح لتنكمش وتتقوقع .. ثم لتقتصر على دعم اعلامي ونظري لا يسمن ولا يغني من جوع , واكتفت باستضافة ائتلاف قوى المعارضة والحكومة السورية المؤقته ومن دون أي دعم مادي أو لوجستي .. وتحوًلت سوريا كلها إلى حماه بل أسوأ بكثير , ثم استقرت السياسة التركية الآن على مبدأ خطوة إلى الأمام وخطوتين إلى الوراء وانكشف الغطاء … وغدا التكتيكات تخبطات ليس إلا .. حتى وصل بها الأمر إلى ما يشبه مغازلة النظام المجرم في دمشق من خلال الوسيطين الشريكين في الإجرام روسيا وإيران .. حتى أن دخولها إلى مدينة جرابلس / لتحريرها / جاءت لصالح النظام وإيران وروسيا ( رغم ادعائهم بعدم قبولهم لهذا الاجتياح ) , فالسؤال الذي يطرح نفسه بهذا الصدد هو : لماذا لم تتحرك تركيا قيد انملة وكانت داعش تحتل كامل حدودها حتى مدينة / رأس العين / ؟؟ ولماذا جاءتها النخوة الآن … ؟؟ إن وراء الأكمة ما وراءها , والسيناريو تجلًت تماما عبر التصريحات التركية الرسمية والتي جاءت بالتتالي :
= تحرير جرابلس من داعش …
= تحرير جرابلس من داعش وابعاد قوات سوريا الديموقراطية …
= تحرير جرابلس وضرب وابعاد حزب الاتحاد الديموقراطي إلى شرق الفرات .
= تحرير جرابلس وضرب وابعاد الأكراد .
وبالرغم من أننا لا نشاطر حزب الاتحاد الديموقراطي ( PYD ) لا في سياساتها ولا في ممارساتها .. لكننا نعرف أن هاجس تركيا الأساسي هو الكرد وليس داعش , ومن يقضٌ مضاجعها ـ حسب رأيها القاصر ـ هو حراك الشعب الكردي وليس وجود ولا احتلالات داعش , ومن تريد القضاء عليهم هم الكرد ولا آخر , وهذا ما يريح النظام وايران وروسيا الذين لا يريدون الخير للكرد أينما كانوا داخل مناطقهم أم خارجها .. كما يريح العديد من رموز ائتلاف قوى المعارضة العسكرية والسياسية المتشبعون بالبعثنة والأسدية حتى الرمق .
إن جل ما نخشاه وما لا نريده هو أن يدفع الانقلاب الأخير بتركيا إلى التحول من دكتاتورية ناعمة إلى دكتاتورية خشنة وفاقعة .. ومن تكتيكات سياسية أقرب ما تكون إلى التخبط إلى تكتيكات سياسية أقرب ما تكون إلى التهور .