فرص الحل العادل للقضية الكردية في تركيا
عبد الباسط سيــــدا
بعد سقوط نظام صدام حسين، وتفكّك العراق نتيجة التدخل الإيراني، وانعدام الثقة بين المكونات العراقية، سلّطت الأضواء على إقليم كردستان العراق الذي تمكّن من تقديم ما اعتُبر نموذجاً واعداً في العراق والمنطقة. ولا يخفى أن التفاهم مع الجانب التركي، والاستفادة من خبراته والتبادل التجاري معه، كانا من العوامل التي ساهمت في نجاح تجربة الإقليم.
ومع مجيء حزب العدالة والتنمية إلى الحكم في 2002، بدأ الحديث يكثر حول إمكان حل القضية الكردية في تركيا على أسس عادلة مقبولة من مختلف الأطراف، وضمن إطار وحدة تركيا، ما اعتبر تطوراً متميزاً وغير مسبوق في أهم قضية وطنية شغلت تركيا كثيراً، وستشغلها وتربكها مادامت لم تُحل.
وقد قطع حزب العدالة أشواطاً كبيرة في ميدان تعامله الإيجابي، فرُفع الحظر عن استخدام اللغة الكردية في الإعلام، كذلك دخلت الجامعات وأسست دور نشر كردية، وتمكّن الكرد من تسلّم زمام الأمور في عشرات البلديات، الكبيرة منها والمتوسطة والصغيرة. وانتعشت المناطق الكردية اقتصادياً، وأسهمت في النهضة الاقتصادية التركية العامة. ودخلت الحكومة في مفاوضات مباشرة معلنة مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله اوجلان. إلا أن الذي كان يُلاحظ دائماً عدم تمكّن حزب العدالة من تحويل برنامجه الخاص بالسعي لحل القضية الكردية في تركيا إلى برنامج وطني عام، يخص كل تركيا، لا حزب العدالة وحده، هذا مع العلم بأن الحل يبقى حاجة تركية داخلية في المقام الأول. وقد كشفت المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة هذا الأمر بكل وضوح، ولعل هذا ما يفسر جانباً من التعثّر الذي حصل بعدما وصلت الأمور إلى ما يشبه النهاية على صعيد الحل.
وهنا لا بد أن يُشار إلى الدور الإيراني في ميدان المساهمة في إفشال الجهود السياسية التي كانت تبذل لحل القضية الكردية في تركيا. فقد عمد النظام الإيراني عبر علاقاته الوثيقة مع قيادة الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني إلى تصعيد التوتر والعمليات العسكرية في الداخل التركي، الأمر الذي استغلته بعض القوى المناوئة للحل السلمي ضمن مؤسسة الجيش التركي.
وكانت هناك صيغة تناغم بين الجانبين بحيث وصلت الأوضاع إلى حد تعليق الجهود التفاوضية، بخاصة بعد المتغيّرات التي حدثت في سورية على صعيد تحوّل الســياسة الأميركية التي اتخذت من محاربة «داعش» الأولوية. وبالتالي كان هناك الدعم اللافت للقوى المسلحة التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي التابع للعمال الكردستاني، والذي تمكّن نتيجة التنسيق مع النظام السوري، والدعم الذي حصل عليه منه، من إبعاد القوى الكردية السورية عن الساحة، مستغلاً واقع عجز قياداتها عن استيعاب طبيعة المرحلة ومستوجباتها.
وهكذا باتت ورقة كرد سورية هي الأخرى بيد هذا الحزب، يستخدمها في إطار حساباته الإقليمية، وبالتفاهم مع حلفائه.
لكن يبدو أن الحسابات تغيّرت مع دخول كل من روسيا والولايات المتحدة على الخط، وظهرت الخشية من أن يخرج الموضوع الكردي عن الإطار الإقليمي، ليغدو أداة دولية، تُستخدم للضغط على القوى الإقليمية في سياق حسابات ومعادلات الترتيبات الجارية في المنطقة.
ولعل هذا ما يفسر جانباً من التحركات التركية الديبلوماسية والميدانية المتسارعة الأخيرة، كما يفسر التجاوب الإيراني مع النزوع ذاته.
إلا أنه على رغم كل التشنج الحاصل، وعلى رغم كل التوترات، وربما الصدامات التي قد نشهدها في أماكن مختلفة بين القوات التركية والعمال الكردستاني، لا يزال هناك اقتناع لدى الجانبين التركي والكردي بضرورة التوصل إلى حل سلمي للقضية الكردية في تركيا، عبر حوارات جادة تركّز على الواقعي الملموس والممكن. وقد لمست شخصياً هذه الرغبة لدى النخب الكردية والتركية على السواء، أثناء المشاركة في نشاطات في كل اسطنبول وديار بكر وبدليس وماردين. فالكل يشعر بأن الأمور لا تسير كما ينبغي نتيجة جهود بعض القوى التي لا يروق لها الوصول إلى حل سلمي عادل لمصلحة الجميع، حل ينهي الصراع ويوقف استنزاف الطاقات، ويمهّد لاستقرار يكون أساساً لنهوض اقتصادي شامل.
إمكانات الحل ومفاتيحه موجودة، شرط توافر الرغبة والإرادة لدى الطرفين. الشخصيات الحكيمة ضمن الجناح السياسي في حزب العمال الكردستاني يمكنها أن تلعب دوراً كبيراً في هذا الاتجاه.
كما أن الكتلة الكردية ضمن حزب العدالة والتنمية يمكنها أن تساهم في عملية التقريب بين وجهات النظر. ومن الضروري هنا إشراك ممثلين عن القوى السياسية الكردية من خارج الكردستاني وممثلي منظمات المجتمع المدني في المباحثات، فهؤلاء يشكّلون أيضاً قوة لا يستهان بها في المجتمع الكردي في تركيا. كما يمكن للإخوة في اقليم كردستان المساعدة عبر تذليل العقبات، وتبديد الهواجس.
كل هذه الإمكانات لا بد أن يستفيد منها صانع القرار التركي، وذلك في سبيل توفير أرضية قوية توفر الفرصة لاستئناف المفاوضات التي لا بد أن تؤدي إلى تجاوز الوضعية الحالية بتشنجاتها وتوتراتها وصداماتها، والتركيز على حل إبداعي يتجاوز عقم العقلية التي تلزم نفسها بقيد البديلين: إما كل شيء أو لا شيء.
ومع حل القضية الكردية في تركيا، ستستعيد القضية الكردية في سورية طبيعتها الأساسية كقضية وطنية سورية، لا بد أن تعالج بمنطق جديد، يقطع نهائياً مع العقلية الاستبدادية القوموية التي كانت على مدى عقود تنكر الوجود الكردي بكل جوانبه.
منطق جديد يعترف بالخصوصية الكردية وبالحقوق القومية المشروعة للكرد في سورية، مع اعتراف بالحقوق المشروعة لسائر المكونات السورية، بعيداً عن أسلوب خلط الحابل بالنابل الذي يلجأ إليه العديد من أسرى المنظومة المفهومية البعثية، ومن أسرى المظلومية الكردية والتعصب الانفعالي.
الحيــــاة