آراء
السياسة التركية في عهديها العلماني والأسلامي
عبدالغني علي يحيى | ||
في عام 1962 قصفت طائرة حربية عراقية في إطار ملاحقتها للثوار الكرد العراقيين، خطأً مواقع تركية، وللفور طاردتها المقاتلات التركية واسقطتها داخل العراق بالقرب من بلدة شقلاوه. وفي عام 1974 توج الخلاف المزمن بين تركيا واليونان حول قبرص ، بأحتلال تركيا للقسم التركي من قبرص وتقسيم الأخيرة إلى قسمين، وكانت تركيا قد تعاملت مع اليونان اثناء ذلك بمنتهى القسوة. وفي عام 1991 شاركت تركيا في حرب التحالف الدولي لتحرير الكويت من الأحتلال العراقي، كما ساهمت مع ثلاث دول أطلسية من ذلك التحالف في إقامة منطقة الحظر الجوي ضمن خط العرض الـ 36 لحماية الكرد العراقيين، بالرغم من تنسيقها فيما بعد ولسنوات مع ايران وسوريا لوأد النظام القومي الكردي الفتي في الوقت نفسي، انظر إجتماعات العواصم الثلاث (دمشق، طهران، انقرة) في السنوات التي نلت الحظر الجوي ذاك. ومن الأمثلة على ردود الأتراك العنيفة والسريعة ضد خصومهم في العهد العلماني العسكري التركي، عدا التي ذكرناها، تهديد انقرة باجتياح سوريا عام 1999 مالم تطرد الأخيرة أوجلان من دمشق ، وامتثلت سوريا صاغرة للتهديد وبقية الحكاية تعرفونها. إلا أنه ومنذ وصول حزب العدالة والتنمية ذو التوجه الأسلامي الأخواني الى الحكم في تركيا عام 2002 فأن تغييرات جذرية طرأت على السياسة التركية التي انتهجت اساليب مغايرة لتلك التي انتهجتها الحكومات العلمانية التركية في السابق، بحيث بدت وكأنها تفضل اللين على الشدة وتجعل من قول السيد المسيح (ع): (إذا ضربوك على خدك الأيمن فأدر لهم الأيسر) شعاراً لها وا ستثني من اللين، الكرد فقط. اذ اتبعت الحكومة الاسلامية التركية السياسة نفسها التي اتبعتها الحكومات العلمانية ضدهم وما تزال، بالرغم من دخولها في عملية سياسية معهم، إلا أنها لم تنفذ التعهدات التي قطعتها على نفسها لحل القضية الكردية في تركيا ، ولقد تبين لاحقاً، ان التغيير في السياسة التركية واللين الذي اعتمدته كان من حيث الجوهر امتداداً للسياسات التركية السابقة كما كان استمرار علاقاتها التحالفية مع الغرب امتداداً لتلك السياسات ايضاً. في عام 2011 أهانت اسرائيل السفير التركي لديها بشكل صارخ وأمام انظار العالم أجمع ، وفي العام عينه، قامت إسرائيل بتوجيه نيران اسلحتها الى سفينة مرمرة التركية بالقرب من سواحل غزة، وكانت النتيجة مقتل وجرح نحو 11 تركيا من طاقم السفينة التي ردت على اعقابها واحيل دون كسرها للحصار المضروب على غزة من جانب اسرائيل . ولم ترد تركيا على اسرائيل، مثلما لم ترد عليها عندما اهانت سفيرها ، واكتفت بتحذير اسرائيل ( من مغبة اختبار الصبر التركي). وبعد مرور نحو سنتين على ذلك الحادث الدموي، أسقطت المضادات الجوية السورية طائرة تركية قيل انها انتهكت الاجواء السورية، وهنا أيضاً وجهت انقرة تحذيراً لسوريا ضمنته العبارة نفسها التي وردت في تحذيرها لأسرائيل وهي التحذير من (مغبة اختبار الصبر التركي). لكن الصبر التركي كما تبين فيما بعد بدا وكأنه فاق (صبر أيوب) بكثير، اذا علمنا ان مواقع حدودية لها وعلى امتداد الشهور الماضية تعرضت الى قصف بالقذائف صدر عن الجانب السوري. ان السياسة التي تنتجها حكومة اردوغان منذ نحو 12 عاماً اتسمت بشيء من الذل والاهانة لتركيا. لقد أوردت تلك الحوادث وما ترتب عليها من مواقف وفي عهدين متباينين لتركيا، على سبيل المثال لا الحصر، وذلك للأجابة على السؤال :هل تتدخل تركيا عسكرياً لمقاتلة الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) ام لا؟ ولتوضيح أمور أخرى في السياسة التركية الحالية كذلك. في صيف هذا العام 2014 عندما ارتكبت داعش جرائم مروعة بحق الشعب الكردي سيما في سنجار الكردية وحاصر امرلي التركمانية وغيرها من المدن والمناطق الكردستانية العراقية. هدد حسين جليك نائب رئيس حزب العدالة والتنمية التركي من (أن تركيا لن تبقى مكتوفة اليدين ازاء ما يتعرض ابناء عمومتنا الكرد والتركمان من اعتداءات على يد داعش ) وأوحى تهديده من أن تركيا ستتدخل سريعاً وبقوة لأنقاذ (أبناء العمومة ) بيد أنها لم تحرك ساكناً وتركت (أبناء العمومة ) الكرد في سنجار، والتركمان في (آمرلي) وغيرها من القصبات التركمانية يواجهون اياماً عصيبة ويخوضون القتال ضد داعش بمعونة غربية وعربية وغيرها، وظلت تركيا (مكتوفة اليدين) إلى الآن، بل أن مواقفها لم ترقى حتى إلى مواقف إيران التي قدمت وما تزال اشكالاً من العون الى العراقيين لمحاربة داعش. ويوم حاصر داعش كوباني وراح يقصفها بشدة وعلى مدى شهر والى الآن، فان أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء التركي قال في معرض تناوله لحصار كوباني، (ان الكرد والتركمان والعرب في سوريا إخوة لنا ) وفهم من قوله، ان تركيا ستتدخل وتحرر (إخوتها ) في كوباني من حصار داعش، إلا ان شيئاً من ذلك لم يحصل واكتفت بحشد قوات لها على الحدود مع سوريا من جهة كوباني وممارسة التفرج والوقوف (مكتوفة اليدين) ايضاً حيال ما تعرض ويتعرض له سكان كوباني. رغم مناشدات حلفائها ومعظم المجتمع الدولي و(أبناء العمومة )و(الاخوة) لها بالتدخل والمشاركة في الحرب على داعش. نعم، كان من المتوقع ووفق المتغيرات التي طرأت على سياسة تركيا في عهدها الاسلامي الأخواني، عدم قيام تركيا بأي تحرك عسكري ضد داعش، ويؤرخ عام 2003 للتغير في السياسة التركية حين امتنعت عن المشاركة في الهجوم على النظام العراقي عام ذاك، من خلال أغلاق قواعدها العسكرية بوجه التحالف الدولي. ومنذ ذلك العام نجد ان السياسة التركية تتقاطع باستمرار في بعض من جوانبها مع نهج وسياسة حليفاتها الغربيات وحلف الناتو ومنذ فترة تطرح تساؤلات عن جدوى بقاء تركيا في حلف الناتو لدى اوساط اوروبية بالاخص ويوحي ظاهر الامر انه إذا مضت تركيا على سياستها الحالية فأن القطيعة بينها وبين الغرب ستقع لا محالة لكن الواقع هو عكس هذا الايحاء. علماً ان الشعب التركي والرأي العام في العالم، كانوا يتوقون الى تغيير من نوع آخر تقليدي، في سياسة التركية، يقوم على الانفتاح على الكرد وتلبية حقوقهم القومية مع تعميق الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات، فحل المشكلة القبرصية إضافة الى قضايا اخرى، إلا أن تركيا بدلاً من الأخذ بالتغيير الديمقراطي الذي كان العالم ينشده ويتوقعه، فأنها عملت على احداث توازن بين سياستها الغربية والشرقية والاسلامية منها بشكل الخاص، ما دفع الاعتقاد ببعضهم الى ان تركية وبالتدريج تبتعد عن الغرب والعالم الديمقراطي، والتقرب تلقائياً من المنظمات الأرهابية ذات التوجه التطرف الأسلامي وذخلت معها في علاقات قوية على غرار دخول دول عربية واسلامية حليفة لامريكا سبقتها الى الدخول في تلك العلاقات. وهنالك جملة أمور تشجع على مضي تركيا قدماً في سياستها الراهنة وترسيخ التوازن الذي اشرنا اليه في سياساتها منها: 1- ان التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ما زال يكتفي بالقصف الجوي ضد داعش ويرفض التدخل البري الذي يعد بمثابة شرط النصر على داعش، عليه والحالة هذه اذا كانت دول الحلف لا تقبل بزج قواتها البرية في الحرب على داعش، فان لتركيا والحالة هذه الحق في الامتناع عن دفع قواتها البرية الى ساحات المعارك اسوة بدول التحالف. 2- هناك معارضة تركية داخلية رافضة لتحرك الجيش التركي للقتال خارج حدود تركيا وتتمثل بدرجة رئيسة في: أ- حزب الشعب الجمهوري ب- جماعة فتح الله كويلان الاسلامية المتشددة. ج- اوساط قومية شوفينية متطرفة. ولا يغيب عن البال، ان السياسة التركية لما بعد عام 2003 هي التي ساهمت في جعل تلك الاطراف القومية والاسلامية المتطرفة، قوية ذات تأثير سلبي على الأحداث. 3- ومن ثمار سياسة التوازن التركية تركيا ومغازلتها للجماعات الأرهابية عبر فتح ابوابها لها وجعلها ممراً لها للوصول الى سوريا والعراق، وحسب أوساط كثيرة، ان هنالك ما يقارب الـ(15) الف عنصر تركي مرتبط بداعش، ويجري الحديث عن وجود خلايا نائمة لداعش في أنحاء تركيا، ولا ننسى انه بمجرد اختلال في التوازن في السياسة التركية أو حصول أضطرابات في تركيا، فان تلك الخلايا لا بد وأن تتحرك وتجعل تركيا تلحق بافغانستان وباكستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، وتدخل النفق المظلم الذي دخلته هذه البلدان. ان التوازن كأي ظاهرة وقتي وعرضة للتغير. 4- مطالبة تركيا بأسقاط نظام بشار الاسد مع اقامة منطقة حظر جوي على طول الحدود التركية السورية جعلت من تركيا تصطدم بالشرق والغرب، فالشرق: ايران والعراق وروسيا، ابدى رفضه مسبقاً للمطلب التركي، وفي الوقت ذاته اعربت الولايات المتحدة وحليفاتها عن عدم موافقتها على اقامة تلك المنطقة. الامر الذي يقوي من رفض تركيا لفكرة المشاركة في الحرب بالشكل الذي تريده اطراف منها 5- ترتبط تركيا كما نعلم بعلاقات تجاربة واقتصادية قوية مع العراق وكردستان وإيران، كانت من أسباب تقدم تركيا وازدهارها النسبيين، وباستثناء علاقاتها مع ايران، فان علاقتها مع العراق وكردستان لم تكن متكافئة ابداً وكانت لصالح تركيا دوماً، ففي هذه العلاقات كان العراق وكذلك كردستان بمثابة بقرة حلوب لتركيا، ومازال علماً ان الدولة العراقية من يوم تأسيسها عام 1921، تحولت بعد سنوات الى تلك البقرة. 6- إن إطالة أمد الحرب مع داعش لسنين طويلة تستجيب بشكل غير مباشر للموقف التركي، فلا تركيا ترغب في مواجهة برية مع داعش ولا الولايات المتحدة أيضاً لأن دخول تركيا في المواجهة البرية قد يقلب حسابات واشنطن في حربها المشبوهة رأسا على عقب، الامر الذي لا تريده الاخيرة، والانكى من كل هذا، أن اطرافاً في التحالف الدولي وعلى راسها الولايات المتحدة اخذت تسعى الى اظهار تركيا بمظهرمن يقع عليه الظلم، فالناتو اعلن التزامه بالدفاع عن تركيا اذا تعرضت الى هجوم، وليس هناك من ينوى مهاجمتها، كما أنه أي الناتو قام بنشر صواريخ (بتريبوت) في الولايات التركية المحاددة لسوريا للدفاع عن تركيا. وفي مقابلة اجرتها فضائية الحدث مع توني بلنكين نائب مستشار الامن القومي الامريكي دافع هذا بقوة عن تركيا قائلاً عنها انها تساهم في الحرب على داعش من خلال احتضانها لنحو مليون لاجئ سوري كما انها اغلقت حدودها بوجه تنقلات داعش اضافة الى مساعدات انسانية تقدمها لضحايا الحرب فقيامها بتدريب المعارضة السورية المعتدلة على السلاح فجعل اراضها مقراً للأتلاف السوري وحكومته المؤقتة عليه لايتوقع احد ان تتكلل العلاقات التركية الغربية بالقطيعة في المستقبل المنظور. يذكر انه سبق وان تعرضت العلاقات التركية الامريكية والتركية الاوروبية الى توترات في الماضي الى انه لم ينجم عن ذلك تصدع او قطيعة فيها. ونتيجة لسياسة التوازن التي يعتمدها حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا فان العلاقات التركية الشرقية والاسلامية كما العلاقات التركية الغربية لن تتعرض الى القطيعة كما فهم من التحذيرات الايرانية والعراقية لتركيا من مغبة اي تدخل عسكري بري لها في سوريا او العراق فتدخل لن يحصل ثم ان تركيا ليست مستعدة للتفريط بعلاقاتها الاقتصادية والتجارية الواسعة مع العراق وايران كما ان هذين البلدين احوج ما يكونان الى موقف تركي متوازن في هذه المرحلة التأريخية الخلاصة، لن تقدم الولايات المتحدة الى ممارسة ضغوط على تركيا باتجاه زجها في حرب برية ضد داعش في سوريا والعراق، ما يعني ان تركيا تظل على موقفها المتفرج كما ان كردستان العراق لن تتمكن بدورها من الاقدام على اية خطوة تغضب تركيا طالما كانت الاخيرة بمثابة البوابة الرئيسة ان لم نقل الاولى والاخيرة لكردستان للاطلالة على العالم الخارجي، وأن غلق هذه البوابة كرد على اجراء كردي مفترض ضد تركيا، من شأنه أن يجر بأوخم العواقب على كردستان وان تركيا بحاجة ماسة الى ابقاء علاقاتها مع كردستان وتطويرها. ثم ان الوضع الميؤس منه والذي انتهي العراق سيجعل الاخير مكبلاً الى اجل غير منطور بالعلاقات غير المتكافئة مع تركيا، ولن تقدم ايران من جانبها على خطوة مستفزة لتركيا طالما بقيت الاخيرة على سياستها الحالية. Al_botani2008@yahoo.com |