الشرق الاوسط بوصفه مستنقع الخوف والتكاذب المتبادل والمفتوح
هوشنك أوسي
المشهد الشرق أوسطي بصورة عامّة، والسوري منه على وجه الخصوص، جد ملتبس ومتشابك ومعقّد، وشديد التوتر والالتهاب. خطوط الاشتباك وجبهاته متداخلة بحيث بات من الصعوبة بمكان فرز المتحالفين من المتحاربين. فمن تعتبره عدوّاً لطرف، تراه متحالفاً من حليف هذا الطرف، وكأنّ مقولة: “صديق العدو صديق” صارت سيد الموقف، بخلاف مبدأ التقليدي “عدو العدو صديق”. وبالتالي، لم يعد هنالك أيّ معنى لتلك العداوة المعلنة. ربما تركيا ونظامها الإسلامي، ليسا الوحيدين في هذا المقام والدرك. ذلك أنه ما برحت تعلن أنقرة “عداوتها” لنظام الأسد، ولكنها، وفي تهافت مريع، انزلقت نحو التعاون والتنسيق مع أكبر وأهمّ داعمين استراتيجيين لنظام الأسد، هما إيران وروسيا. وعليه، سقط كل الكلام التركي عن معاداة نظام الأسد، ونصرته لثورة الشعب السوري على المصالح التركيّة.
كذلك أمريكا، تقدّم الدعم والتسليح لـ”وحدات الحماية الكرديّة”، وواشنطن تعلم تمام العلم أن هذه المجموعات العسكريّة المنظّمة مرتبطة ارتباطاً عضويّاً مع حزب “العمال الكردستاني”، تماماً كما أن بعض فصائل المعارضة السوريّة العسكريّة التكفيريّة، إن لم يكن أغلبها، وغالبيّة الفصائل السياسيّة، بات ولاؤها لتركيا وأردوغانها أكثر من ولاءها لسوريا. هذا الدعم الأمريكي، في ظاهره، غير مشروط أو مقيّد. ومهما شددت واشنطن في شروطها وقيودها على “الوحدات الكرديّة” لجهة عدم وصول جزء من الأسلحة إلى “العمال الكردستاني” فإن هذه الأسلحة ستصل. بالتالي، أولويّة أمريكا ليست الحؤول دون وصول سلاحها إلى “الكردستاني” بقدر ما هو استثمار وتوظيف استطالات او امتدادات “الكردستاني” في سوريا، للحدود القصوى، ضد تنظيم “داعش” الإرهابي. وعليه، ليس هنالك مبالغة في القول: إن أنقرة، بدعمها للفصائل المتطرّفة، وعدم انخراطها غير الجدّي والتام والجذري في الحرب على الإرهاب وتجفيف مصادره وتمويله وتدفق المقاتلين…الخ، هي التي أجبرت واشنطن على تسليح المقاتلين الكرد الموالين للعمال الكردستاني. من جهة أخرى، قلق تركيا من هذا التسليح مبالغ فيه وغير مشروع مطلقاً. ذلك أن كل السلاح التركي البري والجوي والبحري والصاروخي والمدفعي… والتقني، هو امريكي واسرائيلي، ومتفوّق على سلاح “الكردستاني” بسنوات ضوئيّة. وعليه، الخشية التركية لا مبرر لها، طالما سندها واشنطن وتل أبيب والناتو في التسليح منذ ما يزيد عن نصف قرن.
لكن، ثمة خوف أوروبي وأمريكي متزايد من الدور التركي في رعاية ودعم الحركات والتنظيمات الإرهابيّة المتطرّفة. يفاقم هذا الخوف الأمريكي – الأوروبي تلك التصريحات النارية والعدائية التي تطلقها أنقرة بحق حلفائها الذين دعموها منذ اتفاقية “لوزان” ونسف اتفاقية “سيفر” وقيام الجمهوريّة التركيّة، حتى هذه اللحظة، ولولا ذلك الدعم، لكانت تركيا جزء مما هي عليه الآن، وكانت هنالك دولة كردية ودولة أرمنيّة!. ومعلومٌ أنه في حينه (1921-1924)، خدع أتاتورك الأكراد والأوروبيين والبلاشفة على حدّ سواء. والآن أيضاً، يخشى حلفاء تركيا الغربيين أن يكون تحالفهم مع أنقرة خديعة كبرى، وبات يشكّل عبئاً شديدة الوطأة عليهم. من دون أن نسهو عن أن انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاستبدادية الشيوعيّة السابقة أفقد تركيا جزءاً كبيراً من أهميّتها والدلال الذي كانت تحظى به إبان الحرب الباردة. كما أن تركيا، في عهد رجب طيب أردوغان، باتت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح “افغانستان” الشرق الأوسط، تحت حكم نظام “طالبان” (العدالة والتنمية)، ولو في زيّ مدني، وبربطات عنق وبذلات “غربية – كافرة”!.
نعم، تركيا قلقة من تشكل كيان كردي في شمال سوريا يحظى بالحكم الذاتي او الفيدرالي. هذا القلق التقليدي العصبوي، وهذه الفوبيا التقليديّة، أحد أبرز مفاعيلها-خرافاتها أو تجليّاتها، ترتكز على أن أي كيان كردي، ولو في الموزمبيق، سيكون خطراً على وامن واستقرار ووحدة الاراضي التركية. هذه المفاعيل والخرافات، ثبت بطلانها. بدليل العلاقات الاستراتيجية الاقتصادية المتينة مع إقليم كردستان العراق. كما أن “العمال الكردستاني” التركي (المفترض أنه انفصالي) صار يحارب هذا إقليم كردستان العراق، ويرفض قيام دولة كرديّة، أكثر مما تحاربه تركيا!؟.
الحقّ أنه ثمة مفاقمة وتغذية لهذا الرهاب والفوبيا والوهم من التبعات الوخيمة للكيان الكردي في سوريا أو في العراق على وحدة أراضي تركيا، قام ويقوم به الحشد الأخوانجي (السوري-المصري) الذي بات له حضوره القوي في الحقل الإعلامي والاستشاري والاقتصادي المحيط بأردوغان. ولا يمكن، في أي حال من الأحوال، التقليل من تأثير هؤلاء، على مزاج أردوغان وقراراته. وبتقديري، هؤلاء لا يريدون خير تركيا، بقدر ما يريدون توريطها أكثر في نفق الأوهام والخرافات والفوبيا من الدولة الكردية.
ما يؤسف له أن سلطة حزب “الاتحاد الديمقراطي” (فرع العمال الكردستاني في سوريا) ما أن تحقق انتصاراً على تنظيم “داعش” أو تجد براقة انفراج في علاقاتها مع أوروبا وأمريكا، حتى تنقض هذه السلطة، كذئب جائع وجريح، على الكرد المختلفين معه في السياسة والأفكار، يريد افتراس شأفة أي فعل معارض لسلطة الحزب الأوجلاني التوتاليتاريّة والعسكريتاريّة في كردستان سوريا. ولعل اعتقال هذه السلطة لقيادات في “المجلس الوطني الكردي في سوريا” من ضمنهم القيادية والناشطة السياسية: فصلة يوسف ونارين متيني مساء 9/5/2017، غداة إعلان الرئيس الأمريكي ترامب موافقته على تسليح “وحدات الحماية الكردية”، هو تفصيل غاية في البساطة قياساً بحجم المحنة والقمع الذي يعانيه المخالفون والمختلفون مع حزب “الاتحاد الديمقراطي”. والأنكى والأكثر مفارقة وغرابة في الأمر، ان اعتقال “الاتحاد الديمقراطي” للقيادات الكردية السوريّة المعارضة له، تزامن في نفس التوقيت، مع اعتقال النظام التركي 7 من برلمانيي “حزب الشعوب الديمقراطي” الموالي لـ”الكردستاني” في تركيا. بمعنى، ما تقترفه السلطات التركية بحق الموالين لـ”الكردستاني” في تركيا” يفعله حزب أوجلان بحق الكرد المعارضين له في سوريا!.
ويبدو أن كل ابتسامة سياسية او عسكرية اوروبية أو أمريكية لسلطة “الاتحاد الديمقراطي” في كردستان سوريا، يعتبرها الحزب فتحاً مبيناً، ومبرراً كافياً لسحق معارضيه، وبل تفوضياً دوليّاً لممارسة القمع، على ان الأمريكيين والأوروبيين باتوا يعمون أبصارهم عن انتهاكات هذا الحزب بحق المواطن الكردي في سوريا، بهدف استخدامه ضدّ “داعش”. فقرار الادارة الأمريكيّة بتسليح “المقاتلين الكرد” أصاب الحشد الأوجلاني بشيء من الغبطة والغرور والغطرصة يفوق السهترة والفاشية الحزبيّة التي نراها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، لجهة تبرير وشرعنة الانتهاكات والاعتقالات بحق المعارضة الكردية للحزب الاوجلاني. ويغفل هؤلاء عن بديهية مفادها؛ أن واشنطن لم تصدر حتى الآن اي تصريح احتجاج على القصف الجوي التركي لمناطق تمركز المقاتلين الكرد. لأن مجرد ذكر اسم هذه المناطق، ولو في سياق احتجاج روتيني، سيكون بمثابة اعتراف بسلطة هذا الحزب. وهذا ما لم تفعله واشنطن حتى الآن. يعني، مستوى العلاقة مع الحزب الأوجلاني (السوري) حتى الآن لم يرقَ إلى الاعتراف السياسي الرسمي بسلطة “حزب الاتحاد الديمقراطي” في كردستان سوريا. زد على ذلك، واشنطن كانت تدعم الفصائل والإسلامية والجهاديين الأفغان ضد الوجود السوفياتي في أفغانستان. وعليه، واشنطن مستعدة الآن لدعم حتّى “الخمير الحمر” إذا ظهروا من جديد، ودخلوا معركة الحرب على “داعش” و”القاعدة – النصرة – خورسان”. بمعنى أكثر وضوحاً، لا يوجد حتى الآن، عوائد سياسيّة للدم الكردي المسفوك في حرب امريكا على تنظيم “داعش”. ويُخشى أن يذهب هذا الدم الزكي هدراً، دون أن يحقق “العمال الكردستاني” حلمه الوجودي في الخروج من لائحة المنظمات الإرهابية، ويبقى قيد هذا الحزب على رقاب الكرد السوريين، طالما بقيت القضية الكردية في تركيا دون حل.
قصارى القول: ثمة حالة من التكاذب المتبادل بين كل المنخطرين في الأزمة السوريّة. تركيا تكذب على المعارضة السورية. الأخيرة تكذب على أكراد سوريا. أكراد سوريا يكذبون على بعض. أمريكا كذبت وتكذب على تركيا والمعارضة السورية والأكراد. روسيا تكذب وتفاوض على مصير نظام الأسد، بأن يكون لها حصة الأسد في سوريا المستقبل. الفصائل والاحزاب الشيعية تكذب على حواضنها على انها تقاتل في سوريا دفاعاً عم المراقد الشيعيّة. الفصائل والاحزاب السنيّة تكذب على حواضنها. النظام الاسدي يكذب على حاضنته…، بحيث الكل يكذب على الكل، والكل يخاف من الكل. وسط كل هذا، لا مناص من محاولة خلق الثقة وتبديد الخوف والهواجس وزرع الصدق والصدقيّة في الفعل قبل القول لدى جميع الأطراف، وصولاً للخروج من هذا المستنقع.
المركز الكردي السويدي للدراسات
جميع المقالات المنشورة تعبر عــــن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عـــن رأي Yekiti Media