هل يحقق الكرد حلمهم أخيراً أم تسقطه صراعاتهم والمحيط؟
جــورج سـمعان
كلما اقترب أوان تحرير الموصل وبعده الرقة ابتعد التفاهم على خطة سياسية وأمنية وإدارية لمرحلة ما بعد «داعش». فلا القوى السياسية والعسكرية في العراق رست على خريطة طريق واضحة لمعالجة ما خلفته وتخلفه الحرب على الإرهاب. ولا القوى المتصارعة في سورية خلصت إلى حد أدنى من التهدئة بانتظار نضج الظروف الدولية والإقليمية التي تتيح البحث في تسوية جدية. لذلك تستمر الحروب الجانبية في سباق محموم لوراثة أرض «دولة الخلافة». وبعضها يؤخر فعلاً التعجيل في استئصال الإرهاب. وبعضها الآخر يؤسس لصراعات قاتلة تفاقم تمزيق الإقليم وتفتيته وتعميق الانقسامات بين مكوناته. وأكثر ما يقلق المعنيين باستقرار الإقليم فعلاً هو أن الأسباب التي أنتجت تنظيم «أبي بكر البغدادي» وقبله «قاعدة أبي مصعب الزرقاوي» حاضرة أبداً لتوفير الظروف الملائمة لتنظيم مماثل أشد خطراً من السابقين ما لم يهدأ الصراع المذهبي أولاً. وما لم تكف دول الجوار العربي عن ممارسة سياسة الهيمنة بذريعة حماية هذه الطائفة أو المكون وذاك. وما لم تبتعد دول المنطقة عن صراع المحاور الذي يجدد حرباً باردة لا ناقة لهم بها ولا جمل.
حرب السيطرة على الحدود السورية، خصوصاً الشرقية والجنوبية صراع مفتوح بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وإيران وحلفائها من جهة ثانية. وهي الإطار الأكبر للسباق المحموم على تقاسم الجغرافيا السورية. ويضع لها الأميركيون وحلفاؤهم العرب عنواناً واحداً هو قطع خطوط التواصل بين «العواصم الأربع» التي تتباهى إيران بأنها جزء من أمبراطوريتها المستعادة. ولا هم بالطبع في هذه الحرب لوقف المأساة السورية. لكن ثمة صراعاً آخر ينذر بقرب الانفجار وسيجر إليه متورطين. ويخلق مشهداً جديداً في خريطة المشرق العربي، على مستوى تغيير الحدود الداخلية وربما الدولية. ويعيد خلط الأوراق وشبكة العلاقات والتحالفات والمصالح. إنها المسألة الكردية التي عادت بقوة إلى المسرح السياسي، خصوصاً بعد سقوط نظام صدام حسين، ثم تفاعلت مع اضطراب العملية السياسية في العراق واندلاع الأزمة في سورية. وبدء الحرب لتحرير الموصل والرقة.
تطلعات أهل كردستان إلى اقتناص الفرصة السامحة لبناء كيانهم المستقل لم تعد عملية سياسية تقتصر على ما سينتهي إليه الحوار أو المواجهة بين إربيل وبغداد. ثمة جغرافيا متبدلة في الإقليم كله. الهدنة بين حكومة حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم وحزب العمال الكردستاني انهارت قبل عامين، وجرت وتجري مواجهات لم تعد تقتصر على شرق تركيا وحدها. امتدت إلى ميادين خارج الخريطة المعروفة. باتت تشمل سورية وحتى إيران. وفرضت هدنات هنا وهناك وتحالفات مرحلية، بقدر ما أثارت معارك داخلية بين الكرد أنفسهم، وتعد بمزيد من معارك مع مكونات أخرى. كما أن العلاقات بين القوى السياسية في كردستان تمر في أزمة كبيرة بعدما واصل رئيس الإقليم مسعود بارزاني ممارسة سلطاته على رغم انتهاء ولايته العام 2015، وحله البرلمان وطرد رئيسه المنتمي إلى «حركة التغيير». وأعادت الأزمة التوتر إلى العلاقات بين القوى والأحزاب الكردية. لكن الحرب على «داعش» وتهديده حدود الإقليم خففا ويخففا من وطأة هذا التوتر. ولكن مع اقتراب نهاية التنظيم الإرهابي في الموصل، وتمدد حزب العمال في سنجار ومحيطه وتهديده سلطة الإقليم، وعلاقاته المرحلية مع «الحشد الشعبي»، وتعثر التسوية بين السليمانية وأربيل، كلها تطورات دفعت الرئيس بارزاني إلى استعجال تحديد موعد للاستفتاء على الاستقلال في الخريف المقبل، الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) هذا العام. لعل في ذلك ما ينهي أزمته مع القوى الأخرى، خصوصاً الاتحاد الوطني و «حركة التغيير» وقوى إسلامية أخرى لا ترى الوقت مناسباً لإجراء هذا الاستحقاق. كما أن رئيس الإقليم بات يستعد لمعركة ربما لا مفر منها مع «قوات الحشد الشعبي». وهو حذر هذه القوات من تجاوز حدود الإقليم. خصوصاً أنها لا تخفي تحالفها مع قوات تابعة لحزب العمال تمددت إلى سنجار بذريعة حماية الإيزيديين.
بالطبع لا أحد من القوى الكردية يمكنه أن يقف صراحة بوجه هذا الاستحقاق، الذي قد يشكل خاتمة لمآسي الكرد التاريخية وميلاداً للدولة المنتظرة منذ مطلع القرن الماضي. لكن ما لا يروق معارضي رئيس الإقليم أن يبدو بارزاني رجل الاستقلال الأول. لذلك يشترط حزب جلال طالباني، الرئيس العراقي السابق، تسوية مشكلات الإقليم وإعادة تفعيل البرلمان والتفاهم على مرحلة ما بعد هزيمة «داعش». وشكا من أن انشغل بمعركة الموصل عن اتفاق بين إربيل وبغداد والأميركيين على تشكيل قوة مشتركة لاستعادة جنوب سنجار وغرب تلعفر… لكن «الحشد الشعبي» تحرك في هذه المنطقة من دون التنسيق مع أحد. او بالأحرى تواصل مع حزب العمال. ورأى بارزاني أن هذا خلق وضعاً معقداً.
لكن السؤال هل ستخدم الظروف الحالية توجه الكرد نحو بناء دولتهم المستقلة؟ الولايات المتحدة حليفتهم التاريخية الثابتة بدلت ولم تبدل في خطابها. إنها تولي أهمية لمطالبهم «الشرعية» وتكنّ لها «الاحترام. وربما رأت أن حلمهم بات قريب التحقيق. لكنها تكرر من جهة أخرى تمسكها بوحدة العراق الديموقراطي الفيديرالي. وتعتقد بأن إجراء الاستفتاء في هذا الوقت يصرف النظر عن الحرب على «داعش». أما بغداد فلا يملك رئيسها حيدر العبادي في الظروف الحالية الجرأة على إعلان موقف واضح حيال مشروع إربيل. فهو يدرك أن معركة الزعامة على القوى والأحزاب الشيعية لا تسمح له بالتساهل. خصوصاً أن غريمه الرئيسي نوري المالكي يشن حملات قاسية على قيادة الإقليم ويهدد بالويل والثبور. وطلب العبادي وعمار الحكيم رئيس «التحالف الوطني» الشيعي تأجيل الاستفتاء في هذه الظروف. علماً أن العرب بسنتهم وشيعتهم يعارضون الاستقلال اليوم كما في الماضي البعيد والقريب. وتشدد بغداد على أن مثل هذا الاستحقاق لا تعود الكلمة فيه إلى الكرد وحدهم، بل إن جميع العراقيين معنيون بتحديد مصير بلادهم.
وتعول بغداد على ضغوط تركيا وإيران اللتين تتمسكان بوحدة الأراضي العراقية حفاظاً على وحدة أراضيهما. وتراهن على عمق الخلافات بين القوى الكردية التي يمكن أن تقف حائلاً دون تحقيق هذا الحلم. لذلك خرج القيادي في الحزب الديموقراطي هوشيار زيباري بخطوة ديبلوماسية للتخفيف من وقع الاستفتاء على المناطق المتنازع عليها مع بغداد، خصوصاً كركوك الغنية بالنفط. وحاول الفصل بين نتيجة الاستفتاء والاستقلال. والواقع أن المدينة باتت تشكل «قدس» الإقليم إذا صح التعبير. ولا يمكن الكرد التنازل عنها مهما كانت التحديات. وتدرك قيادة الإقليم أن طهران يمكنها العمل على خلق ظروف تعطل الاستحقاق. فلها علاقات تاريخية مع حزب طالباني. فضلاً عن أن التطورات على الساحتين العراقية والسورية صرفتها عن مواجهة حزب العمال الذي يرى هو الآخر مصلحة في مهادنتها. وهو ما يوفر له مساحة أكبر في صراعه مع تركيا. مثلما وفر له التمدد عبر سنجار نحو شرق سورية وشمالها عبر حليفه أو فرعه في سورية، حزب الاتحاد الديموقراطي.
هذه الوقائع المحيطة بالاستفتاء، خصوصاً التحالف الآني الطارئ بين إيران وحزب العمال، تشد الرباط بين أمتي العراق وسورية. وتحدثت التقارير الأسبوع الماضي عن ارتباك يواجه «الاتحاد الديموقراطي» الذي يقود «قوات سورية الديموقراطية». مرد ذلك اقتراب «الحشد الشعبي» من حدود محافظة الحسكة. ولا شك في أن طهران ترتاب في علاقات الحزب مع الولايات المتحدة. وتغضبها تهديداته بالتصدي للميليشيات العراقية إذا دخلت مناطق سيطرته. كما أن قيادته لا يمكنها أن تتجاهل علاقتها مع حزب عبد الله أوجلان، ولا يمكنها تعريض علاقاته ومصالحه لأي تهديد. ولا شك في أنه سيستعين بعد طرد «داعش» من الرقة بحزب العمال لبسط سيطرته على المنطقة، علماً أنه لا يملك القدرة على الإمساك بها. جل ما يطمح إليه هو ربط المناطق الكردية الثلاث، الجزيرة وكوباني وعفرين، بعضها ببعض لإقامة منطقة حكم ذاتي على شاكلة كردستان. ويمكنهم الآن نظرياً على الأقل ربط عفرين بالمنطقتين الأخريين شرق الفرات عبر منبج، بعدما ساهموا في إخراج المعارضة من حلب وعودتها إلى حضن النظام في دمشق. وهم يقاتلون الآن بدعم أميركي صريح وواضح، لكن واشنطن لا تخفي رغبتها في إقامة إدارة عربية في الرقة بعد تحريرها. لذلك تعمل على تعزيز فصائل «جبهة الجنوب» وتفاوض موسكو على منطقة آمنة جنوب سورية يفترض أن تشكل نقطة انطلاق للسيطرة على تركة «تنظيم الدولة». فهي مقتنعة بأن لا النظام في دمشق يملك عديداً يمكنه من ملء الفراغ الذي سيخلفه التنظيم، ولا «وحدات حماية الشعب» تملك قدرة على ذلك أو سيسمح لها عرب الجزيرة أو وادي الفرات أو حتى النظام ببسط «سيادتها» على شرق البلاد. وإذا نجحت توجهات الإدارة في ثني الكرد للاكتفاء بالحسكة والقامشلي وعين العرب تبث شيئاً من الحرارة في علاقاتها المتوترة بأنقرة الغاضبة من دعمها حزب الاتحاد الذي تصنفه «إرهابياً».
في ضوء كل هذه التعقيدات التي تحيط بظروف الكرد ومناطقهم في سورية والعراق، هل يمكنهم قيادة سفينتهم إلى بر الأمان والتغلب على رياح وعواصف من كل حدب وصوب، أم يصيبهم ما أصاب أسلافهم على مر التاريخ الحديث؟ وهل تفتح نهاية «داعش» في الموصل والرقة جبهة حروب جديدة يكون الكرد وأحلامهم وقودها هذه المرة؟ وهل يمر استحقاق الاستفتاء في كردستان أم يتكفل المتضررون الإقليميون والصراع بين القوى والأحزاب الكردية بتعطيله؟
الحياة
جميع المقالات المنشـورة تعبر عــن رأي كتابـها ولا تعبـر بالضـرورة عــن رأي Yekiti Media