أربع إسرائيلات أخرى.. أو كوردستان بلا كورد
د. ولات ح محمد
قبل نحو ثلاثة أسابيع كان دوغو برينجك رئيس حزب الوطن التركي في ضيافة المسؤولين في طهران، وفي ختام لقائه برئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في مجمع تشخيص مصلحة النظام علي أكبر ولايتي قال برينجك لوكالة تسنيم: “إن المنطقة والعلاقات بين دول المنطقة كإيران وتركيا تشهد علاقات شائكة.. أمريكا وإسرائيل تهددان وحدة أراضي المنطقة بينما تسعى إسرائيل إلى تشكيل إسرائيل ثانية تحت اسم كوردستان الكبرى”.
أما علي أكبر ولايتي نفسه فقد كرر مثل هذه التهمة/ التسمية غير مرة وآخرها كانت قبل نحو عام، وكان آنذاك مستشاراً للمرشد الإيراني علي خامنئي، عندما قال: ” الهدف من إنشاء دولة كوردية هو إيجاد إسرائيل ثانية وثالثة في المنطقة لتفكيك المنطقة، وهو هدف للإمبريالية والصهاينة “. ما يلفت الانتباه هذا التناغم والانسجام بين المسؤول الإيراني (المتدين) والسياسي التركي (اليساري) في نظرتيهما إلى المسألة؛ فهما لا يريان في الكيان الكوردي المحتمل سوى محاولة لـ”زرع” إسرائيل ثانية، والمطلب الكوردي عندهما مؤامرة أمريكية صهيونية لتفكيك المنطقة.
الكوميدي في تصريحات برينجك هو قوله إن المخطط يحمل عنوان كوردستان ولكن لا علاقة للكورد به، وتأكيده أن :”الإخوة الأكراد داخل تركيا لن يدخلوا المخطط الأمريكي الإسرائيلي ولن يساهموا في نار هذا المخطط على الإطلاق”. وجه الكوميديا في هذا القول يتمثل في أمرين: الأول هو قوله إن “أكرادهم” لن يشاركوا في “المخطط الأمريكي الإسرائيلي”؛ إذ يشبه كلامه هذا أسلوب الكبار في تشجيع الصغار على عدم ارتكاب الأخطاء قائلين لهم مثلاً: أنتم عقلاء وشطار ولن تفعلوا هذا، أليس كذلك يا حبايبي؟. أما الثاني فهو قوله إن المخطط يهدف لإقامة دولة تحت اسم كوردستان ولكن لا علاقة للكورد به؛ فكلامه هذا يعني أن المخطط إذا نجح سيؤدي إلى قيام كوردستان رغماً عن إرادة الكورد الذين يرفضون – حسب قوله – قيام مثل هذه الدولة !!!. المشكلة أن السياسي التركي لم يبين من سيكون شعب الله المختار في الدولة المنشودة “إسرائيل الثانية” ؟؟!!.
أما ختام تصريحات برينجك فكان دعوة تركيا إلى تعزيز علاقات الأخوّة والتعاون مع إيران أكثر فأكثر قائلاً: “نحن مطمئنون إلى أننا نستطيع أن نبسط الهدوء في منطقة غرب آسيا”. ولا يخفى أن “نحن” هنا تعني الدولتين اللتين بينهما من صراع ومن أسباب الخلاف والاختلاف ما يجعل من المستحيل التلاقي والتعاون بينهما إلا في الموضوع الكوردي الذي يجعل من المستحيل ممكناً عند هذه الأنظمة. وأحد أسباب وجود رئيس الأركان الإيراني في أنقرة الآن على رئس وفد عسكري أمني هو منع قيام “إسرائيل ثانية وثالثة”. وفي هذا رسالة لكل قائم على الشأن الكوردي تقول: إنهم يتفقون عليكم على الرغم مما يفرقهم، فلماذا تختلفون عليهم على الرغم مما يجمعكم؟؟.
تأخر الأتراك عن جيرانهم العرب والفرس في إطلاق هذه (التهمة) على مشروع الدولة الكوردية أو حتى إن كان أقل من دولة؛ فقد دأب شركاء الكورد أو جيرانهم من العرب والفرس على وسم سعيهم للحصول على حقوقهم بالمؤامرة واختصاراً بـ”إسرائيل الثانية” في كل مناسبة. واللافت في هذا الشأن أنه لم تختلف الأنظمة ومعارضاتها على هذا الوصف، ولم يختلف عليه كذلك الإسلامي والعلماني والقومي والليبرالي واليساري والاشتراكي والماركسي؛ فالموقف من الكورد وإطلاق هذه الصفة/ التهمة تكاد تكون الحالة الوحيدة التي يتفق عليها كل أولئك المختلفون والمتناقضون. …
هؤلاء يدركون أن المسعى الكوردي حق مشروع له وليس غاية إسرائيلية، ولكن حتى تسهل عليهم مواجهة الطموح الكوردي وحقه ينبغي وضع هذا الطموح في إطار المؤامرة على الدولة ووحدتها فتسهل عليهم شيطنته في عيون الناس وبالتالي ضربه بلا هوادة. هؤلاء يرون في كل جغرافيا تبحث عن ذاتها الكوردية إسرائيل أخرى، ولذلك قد يكون في المنطقة خمس إسرائيلات مستقبلاً، وقد لا يكون لديهم مانع في ذلك؛ فالمهم عندهم ألا يطلقوا عليها اسم كوردستان الذي يسبب لهم حساسية من نوع خاص لا يتحملون نوبتها إن أتت. (ولذلك يُطرح الآن في البرلمان التركي مشروع قانون يجرم النواب الذين يستخدمون كلمات “كوردستان والمدن الكوردية” ويفرض عليهم عقوبات مالية. وانطلاقاً من الذهنية المريضة ذاتها سلم نوري المالكي مدينة الموصل لداعش آملاً في القضاء على الطموح الكوردي، وكأن لسان فكره المريض يقول: داعشستان ولا كوردستان).
المهم عندهم أيضاً إن قامت كوردستان رغم أنوفهم ألا يقال إنها قامت بجهود الكورد وعذاباتهم، بل أن يقال إنها نتيجة مؤامرات الآخرين وإنها كوردستان “بلا أكراد”، ولذلك دائما يروجون لفكرة مفادها أن الكورد لا علاقة لهم بما يجري وأنهم لا يريدون دولة وإنما هي مؤامرة خارجية لزرع إسرائيلات أخرى في المنطقة كما قال كل من ولايتي وبرينجك. ويكون بذلك كل كوردي يعمل لهذه الدولة أو يشارك فيها أو يفرح بها عميلاً أمريكياً صهيونياً؛ فكوردستان عندهم ليس مشروعاً أو حقاً كوردياً بل هو مشروع أمريكي صهيوني، فإن قامت فهي لهما وليست للكورد “العقلاء الشطار” الذين لن يشاركوا في هذه المؤامرة.
(إسرائيل الثانية) التي اكتسبت صفة التهمة للكورد الذين يطالبون بحقوقهم باتت اليوم شعاراً مسجلاً باسمهم. أما الذين يواجهون السعي الكوردي برفع هذا الكارت (التهمة) بوجهه فإنهم يلخصون به الكثير مما يودون قوله، فهم لا يحددون موقفهم فقط من مطالب الكورد وحقوقهم، بل يعبرون عن رؤيتهم للكورد أنفسهم؛ فإسرائيل بما تمثل لديهم من رمز لكل شر، بات إلصاق تسميتها بأي طرف (فرداً كان أم حزباً أم شعباً أم مشروعاً) كافياً لشيطنة ذلك الطرف عند جمهورهم، لأن التسمية (إسرائيل) صارت المعادل الموضوعي لكل شر ومؤامرة. علماً أنهم تركوا إسرائيل الأولى وشأنها منذ أمد بعيد.
كوردستان (التي لم تتحقق بعد) عند مطلقي هذه التهمة ليست فقط عامل تفكيك المنطقة بل مانعاً لوحدة دولها المفككة أيضاً. كاتب إسلامي يتحدث عن سوريا وتركيا والعراق وإيران فيقول: “مشروع كوردستان الكبرى إسفين يُدق من جديد ليمنع وحدة هذه الأقاليم سياسياً واقتصادياً، ويعزل بعضها عن بعض”. هل قرأتم هذه النكتة: هذه الدول الأربع (الأقاليم) تسعى جاهدة لتحقيق الوحدة فيما بينها ولكن مشروع كوردستان يعوق هذا الطموح الوحدوي!!! أمثال هؤلاء – إسلاميين وقوميين وعلمانيين وماركسيين وليبراليين- لا يجدون مسوغاً لمعارضتهم حق الكوردي سوى اتهامه بتنفيذ مشروع إسرائيلي لتفكيك المنطقة أو لمنع توحدها، حتى بات الكورد عندهم سبب تخلفهم وتفككهم وتحاربهم واحتلال بعضهم لبعض. وكأن الكورد هم من فكك السودان وهم من يطالب بتقسيم اليمن وهم من يفككون ليبيا وهم من سيفككون…؟؟؟.
من بين الأنظمة الأربعة يتميز الإيراني بأن مسؤوليه الرسميين في الدولة هم من يطلقون هذه التسمية/التهمة معبرين بها عن الموقف الرسمي للدولة. والمنطق يقول إن القائمين على المشروع الطائفي في إيران يجب أن يكونوا آخر المتحدثين عن “إسرائيل الثانية”؛ فإذا كانت هذه التسمية تُطلق من باب التشبيه، فإن ما بين إيران وإسرائيل من متشابهات لا مثيل لها بين هذه الأخيرة وبين كوردستان المنشودة؛ فالنظام فيهما أساسه الدين والطائفة، أما كوردستان المنشودة فهي دولة لا تفرق بين الأديان والطوائف والمذاهب. إيران أكثر من إسرائيل الأولى دولة توسعية تطمع في أراضي غيرها وتتدخل في شؤون الآخرين لتحقيق ذلك الهدف، أما كوردستان المنشودة فستكون على أرضها التاريخية فقط، لا أكثر ولا أقل، وسوف يقيم الكورد مع جيرانهم وشركائهم من كل الانتماءات القومية والدينية والطائفية أفضل العلاقات القائمة على الأخوة والشراكة وحسن الجوار والاحترام المتبادل. ومن هنا يبدو غريباً أن يجعل أولئك من إسرائيل تهمة أولاً وليوجهوها إلى الكورد ثانياً..
الآن، هل فعلاً (إسرائيل) عند أولئك القوم تهمة؟؟. الوقائع تقول إن كل أنظمة المنطقة ومعارضاتها تهرول من أجل تطبيع العلاقات مع إسرائيل وكسب رضاها؛ فقد طرحت جامعة الدول العربية منذ خمسة عشر عاماً مشروعاً لتحقيق السلام مع إسرائيل قائماً على مبدأ الأرض مقابل السلام، وما زال المشروع على طاولة العرض بوصفه الحل الأفضل لإنهاء الصراع مع إسرائيل التي ترفضه حتى الآن. وهذا يعني أن العرب يسعون لتحقيق السلام ولكن إسرائيل هي التي تتهرب منه. من جهتها حركة المقاومة الإسلامية – حماس (التي تأسست على مبدأ عدم الاعتراف بإسرائيل ومواصلة المقاومة لإنهاء وجودها) عدلت نظامها الداخلي قبل مدة وصارت بموجب التعديل مستعدة لإقامة دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران 1967، وهذا يعني قبولها بدولة إسرائيل على الحدود ذاتها.
من جهتهم قام بعض رموز المعارضة السورية بزيارة إسرائيل غير مرة. وقد سوغ أحدهم زيارته بسعيه لتخفيف المعاناة عن شعبه قائلاً:” … إننا نبذل كل جهد ممكن لوضع الحدود للهمجية الروسية وإلزامها باحترام اتفاقات جنيف … عرضنا خطة لإقامة منطقة آمنة خالية من التنظيمات الإرهابية في الجنوب السوري” (وهو ما يحصل الآن). المفارقة أن هؤلاء وأمثالهم من المعارضين اللائذين بإسرائيل هم أيضاً يجعلون من إسرائيل تهمة للكورد!! آخذين الدرس من النظام الذي يلطخهم بذات التهمة. أما تركيا فإنها تقيم أفضل العلاقات وعلى كل المستويات مع إسرائيل. وعندما دب بينهما الخلاف بسبب سفينة مرمرة لم يهدأ لها بال حتى عادت المياه لمجاريها.
إذن التعامل مع إسرائيل عند هؤلاء جميعاً ليس سبة أو تهمة، وإلا لما سعوا إلى إقامة أفضل العلاقات معها، وتثبيت حالة سلام دائم معها والاعتراف بها جارة عزيزة وطبيعية. ولكن ميزان الأمور يتغير ويكون لإسرائيل طعم آخر ومعنى مختلف عندما يرتبط الموضوع بالآخر الكوردي تحديداً وبحقه؛ فأولئك القوم ولِعلّة في قلوبهم وعقولهم مستعدون لقبول أربع إسرائيليات أخرى تقوم في جغرافيات الكورد الأربع، وليسوا على استعداد لقبول كوردستان واحدة وفي أية جغرافية كانت (وهذا ما يبحثه اليوم رئيس أركان إيران مع المسؤولين الأتراك في أنقرة). وإذا نجح الكورد في واحدة منها فإنهم سيطلقون عليها تسمية “إسرائيل الثانية” أو “كوردستان بلا كورد” لأن من أقامها في نظرهم هم أمريكان وإسرائيليون وليسوا كورداً بذلوا منذ قرن ملايين الأرواح وأطناناً من الدماء في سبيل رؤيتها قائمة مشيدة.
وأخيراً، ألا تعلمون أيها المنافقون أن ضم كوردستان إلى حدود دولكم المرسومة بأقلام سايكس وبيكو أقدم من قيام إسرائيل بأكثر من ثلاثة عقود؟. ألا تعلمون أن الكورد منذ سايكس- بيكو وحتى قيام إسرائيل قدموا عشرات الآلاف من الشهداء وارتُكِبتْ بحقهم عشرات المجازر في سبيل استرداد حقهم الضائع أو المضيع داخل حدودكم المصطنعة؟. فكيف تشبهون قديماً بحديث؟. وفي الختام، إذا كانت إسرائيل الأولى (التي ترونها “مصطنعة” بمؤامرة) مقبولة لديكم وتذهبون إليها سعياً فلماذا تتهمون أصحاب الحق والأرض والأصالة بـ”إسرائيل الثانية”؟؟!! يا ترى، من حرر قدسكم، أنتم أم أصحاب “إسرائيل الثانية” الذين تكذبون بأنهم جاؤوا من وراء الحدود؟ ومن باع قدسكم لإسرائيل الأولى، أنتم أم أصحاب “إسرائيل الثانية”؟.
أيها المتاجرون، أليس في بضاعتكم قليل من الحياء تسقون به وجوهكم السقيمة الناشفة ..؟؟
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عــن رأي Yekiti Media