الأكــراد والكـذب والرغبات المقموعة
حـازم صاغية
في الهيجان الذي أثارته، ولا تزال، الحالة الكرديّة الجديدة، هناك رغبة مقموعة. إنّها تعيش إلى جانب رغبات أخرى بالطبع، تتقاطع مع بعضها وتخالف بعضها، لكنّها تبقى الأكثر خفاء والتواء بين سائر الرغبات.
فالمنطقة العربيّة لو كانت تعيش زمناً من الوئام والإجماع شذّ عنه الأكراد، بدا مفهوماً هذا الهيجان الواسع وما يصحبه من تخوين. أمّا أنّنا نعيش ما بين حرب أهليّة هنا وحرب إقليميّة هناك، فهذا ما يجعل الرغبة الكرديّة في الانفصال جزءاً، مجرّد جزء، من لوحة عديمة الانسجام.
نذهب أبعد فنقول إنّ ما جهر به أكراد العراق هو ما تضمره أغلبيّة كاسحة من شعوب وجماعات المنطقة. وهذا ما يجعل الوطنيّات العربيّة راهناً، بما في ذلك من إعلانات حبّها المتبادل، شيئاً عصيّاً على التصديق.
لكنّ الاعتبارات التي تمنع الرغبات، السنّيّة والشيعيّة والعلويّة والمسيحيّة والدرزيّة والقبطيّة والإيزيديّة والتركمانيّة…، من التحوّل إلى إرادات ومشاريع، لا تزال كثيرة:
– بعضها المسلّح يستمتع بالسيطرة على الآخرين بما لا يحوجه إلى تقليص رقعة سيطرته عبر الانفصال،
– وبعضها يعرف أنّ العوامل الجغرافيّة والديموغرافيّة والاقتصاديّة تعاند رغبته ولا تخدمها،
– وبعضها يتهيّب الارتدادات الإقليميّة والدوليّة،
– وبعضها لا يزال يتمسّك بتفضيل الكبير على الصغير، أو يعتصم بكون «يد الله مع الجماعة»،
– وبعضها يخاف الاتّهام بإنشاء «إسرائيل ثانية» و»ثالثة» و»رابعة»…
وسط هذه اللوحة الملبّدة، حيث يقف الواقع حائلاً دون الرغبات والإمكانات، أبدى أكراد العراق استعدادهم لاختراق هذا الواقع ولتسييد رغبتهم عليه. والأمر هذا قد ينطوي على فائض إراديّ وعلى نقص سياسيّ، لكنْ يبقى أنّ الجزء الكرديّ من لوحة المنطقة بات نافراً فيما باقي اللوحة ماضٍ في تصارعه مع ذاته، ومع كتمان معظم هذه الذات. النيّات غير المعلنة ارتابت بالنيّة المعلنة الوحيدة، خصوصاً أنّها تقول ما تضمره، وما تشتهيه، تلك النيّات. وتجرّؤ الإقدام على ما يرغبه الآخرون ولا يتجرّأون على الإقدام عليه سبب لغضب هؤلاء الآخرين.
غضبٌ كهذا غالباً ما تزكّيه المراحل الانتقاليّة بما فيها من انهيارات ونهايات وقلق من المستقبل وإحساس بضرورة «ترتيب الأمور» على نحو مفيد لأصحابها. وكم يحتقن الغضب ويتعاظم حين يلمس صاحبه أنّ الحاضر منهار والمستقبل ممنوع، فيما ثمّة من يهيّئ نفسه لمغادرة المركب الذي يغرق.
والحال أنّ المكبوت الذي فينا، وهو كثير، لا يعود إلاّ عودات محوّرة وعدوانيّة وحاسدة، بدل أن تكون عوداته صريحة ومباشرة وسلميّة الطابع. إنّه يكره ما يحاوله الآخرون لأنّه يخاف أن يحاول. يكره ما يجهر به الآخرون لأنّه لا يجروء على الجهر.
وهذا مردّه إلى الافتقار العميق إلى الحرّيّة: الافتقار الذي يجعلنا نبالغ في تصوير عداوات متوهّمة أو مزعومة أو بعيدة، عداوات تُخاض المعارك معها لفظيّاً، فتعفينا من مسؤوليّة خوض المعارك المباشرة والفعليّة التي تداهمنا.
هكذا صارت حملة الهيجان على الأكراد لوحة تجتمع فيها التراجيديا والكوميديا. والأمر فيه نفاق كثير ذو وجهين على الأقلّ: واحد كثر الكلام عنه، وهو التعلّق بـ «خريطة سايكس- بيكو» التي نشأت أجيال على لعنها، والآخر أن يُترك لحسن نصرالله مثلاً، وهو قائد حزب مذهبيّ تعريفاً، أن يحذّر في خطاباته المتلاحقة من «مشاريع التفتيت المذهبيّة»، وأن يتّفق رئيس الجمهوريّة «الإسلاميّة» الإيرانيّة حسن روحاني ورئيس الحزب «الإسلاميّ» التركيّ رجب طيّب أردوغان على أنّ بلديهما «لن يقبلا تقسيم المنطقة وتجزئتها»، وأنّهما يرفضان «تأجيج خلافات عرقيّة ومذهبيّة خطّط لها في منطقتنا متآمرون وأجانب».
بمثل هذا، بمثل هؤلاء، تُصنع الوحدات وتدوم.