ماذا لو ظلت كـردستان العراق جزءا من حدود سوريا؟
وائل عصـام
ثمة أسئلة تجدر بنا مواجهتها إزاء النقاش المثار في مسألة استفتاء كردستان، تتعلق بما طرحه الرافضون من الجمهور العربي لنزعة الاستقلال الكردية، أولها تلك المتعلقة بالتناقضات التي ظهرت في النظر لهذه المسألة، فتجد قوميا عربيا يعيب على الأكراد نزعتهم القومية، وتجده يتحدث عن الوحدة العربية التي تمزقت لـ22 دولة عربية، ويعيب على الكرد إقامة دولة واحدة.
وتجده يشتم مؤامرة حدود سايكس بيكو ليل نهار، والدول الوطنية التي صنعها الاستعمار، ثم يعتبر أن أي محاولة للعبث بهذه الحدود الوطنية المقدسة هو خيانة وعمالة وتقسيم لأوطاننا الظافرة الهانئة، التي توشك أن تحرر فلسطين.
المفارقة أنه حتى حدود سايكس بيكو لم تضع كردستان العراق ضمن العراق، بل وضعته ضمن الحدود السورية الخاضعة للنفوذ الفرنسي، قبل أن تتبدل هذه الخطوط وفق اتفاقية سان ريمو، وتقام حكومات الانتداب البريطاني والفرنسي وفق الحدود الحالية، أي أنه ببساطة لو بقيت حدود سايكس بيكو الأصلية، لما سمعنا شعار العراق الموحد من زاخو حتى البصرة، بل كان الوطنيون السوريون يهتفون الان، بأن أربيل ودهوك جزء مقدس من الوطن السوري، ولن نسمح بتقسيم سوريا الموحدة من زاخو حتى درعا.
ثم متى كان كرد العراق مثلا مكونا منسجما في الدولة المركزية العراقية؟ هل عام 1970 عندما منحهم صدام حسين نفسه، حكما ذاتيا؟ أم في أحداث الأنفال وحلبجة؟ أم خلال تمرد عام 1991؟ أم حين خرجت كردستان عن سلطة بغداد، منذ 1991 حتى يومنا هذا؟
المشكلة المستعصية، أن بناء الانتماء للهويات القطرية في أذهان ونفوس العرب قامت به مدارس ومناهج الانظمة نفسها التي يعادونها، والمنظومة الغربية نفسها التي يتهمونها بالتآمر. وبسبب عدم إدارة العرب لشؤون دولهم منذ قرون، لصالح الأقوام الاخرى التي حكمتهم، اختلط عليهم اليوم الفرق بين الوطن والدولة، فالاوطان ثابتة ولكن الدول منظومات ادارية تتبدل وحدودها تتغير، فالعراق مرّت عليه عشرات الدول والامبراطوريات، ولم تكن حدود تلك الدول بالامس هي نفسها اليوم، بل إن العراق نفسه كوصف جغرافي لم يكن هو نفسه اليوم، فقد كان يطلق على المنطقة الممتدة من الكوفة حتى البصرة، اي جنوب العراق الحالي، وبعدما أقيمت بغداد وسامراء، اطلق على مناطقه الشمالية والغربية الموصل والجزيرة، ثم جاءت خريطة سايكس بيكو التي أبقت معظم مناطق شمال العراق وغربه خارج حدوده، بضمها لسوريا.
كما ان الأكراد أنفسهم حصلوا على اعتراف دولي بحقهم في إقامة دولتهم، في معاهدة سيفر 1920، قبل أن يتمكن الاتراك من إقناع الكرد بالتنازل على مطالبهم ضمن دولة تركية للأمتين الكردية والتركية، بوجه الاستعمار البريطاني، الذي كان يحتل كردستان، كما جاء في مناقشات البرلمان التركي حينها. وهكذا فضل الكرد والمحافظون الاسلاميون منهم تحديدا، البقاء مع «اخوتهم الترك» على إرث الخلافة العثمانية بدلا من الخضوع للبريطانيين، قبل ان يتجاهلهم الغرب بعدها مباشرة، بعدما فرض القوميون الاتراك حدود بلادهم التي تشمل الاناضول موحدة بقوة السلاح.
ومع بزوغ الحركة القومية بقيادة اتاتورك، الذي رأى وجوب تتريك البلاد، حصل الصدام وأعدم الشيخ بيران قائد الثورة الكردية، وكان الاتراك قد نجحوا حينها في إجبار الاوروبيين على تغيبر مخططاتهم، بسبب قدرتهم على مواجهتها بالحرب، فنجحوا في اجبار الغرب على الاعتراف بحدود تركيا الحالية بمعاهدة لوزان، بينما فشل العرب في المواجهة العسكرية ورضخوا للحدود كما رسمت لهم تماما، وقسمتهم لدول غير منسجمة داخليا، وتشمل مكونات متناقضة عرقيا وطائفيا، ولا تحمل أي شعور تاريخي مشترك، أو هوية وطنية تتجاوز الشعارات، لتبقى كيانات عاجزة هشة غير مستقرة دائمة الاقتتال الداخلي، ودائمة التقديس في الوقت نفسه لهذه الحدود التي وضعها الاستعمار الذي يشتمونه ليل نهار.
وإذا كان العرب قد تعرضوا للتقسيم بعد انهيار العثمانيين، وفشلوا في الوحدة حتى الان، لماذا يعيبون على الشعب الكردي المقسم بين اربع دول، أن يسعى للوحدة؟ القضية الاخرى التي وقع فيها الكثير من الجمهور العربي بالتناقض، هي ايمانهم بالوحدة القسرية، وإن لم يسموها، الوحدة التي تجعل الدولة المركزية خاضعة لهيمنة طائفة ما، أو عرقية ما، وتبقي بقية المكونات خاضعة لا شريكة في الحكم، وهذا ما حصل في العراق وسوريا، فالسنة يهيمنون في مرحلة صدام، ويخضعون الشيعة والكرد بالقوة، ويتهمون من يتمرد بالعمالة، والنتيجة ان نظام صدام ذهب لعدم إدراكه هذه التناقضات التي جلبت الاحتلال، بينما من بقي هم أنفسهم القوى الشيعية والكردية التي كان صدام يحاول طمسها بالقوة في سبيل دولة وطنية، ثم هيمن الشيعة واتهموا السنة والكرد بالعمالة. والعلويون يهيمنون ويتهمون ثورة اغلبية ساحقة من السنة بالعمالة للغرب والصهيونية.
وهكذا، وفي هذا السياق تماما، نظر معظم الجمهور العربي للشعور الكردي بإقامة دولته القومية، واتهموا بالعمالة، اذن هي الاسطوانة نفسها ونمط التفكير نفسه تشترك به شعوب المنطقة، وإن كانوا اعداء، فنجد الاستدلال بصور برنارد ليفي الصهيوني في كردستان، تماما كما استدل أعداء الربيع العربي بصور برنارد أيضا، ليقولوا إن ثورة ليبيا وباقي ثورات الربيع العربي مؤامرة غربية صهيونية. وكما قال النظام السوري وايران ان التأييد والدعم الغربي للثورة السورية، دليل على أنها صنيعة صهيونية ومؤامرة ضدهم، وكل هذه السذاجات التي تهيمن على منطق التفكير في تحليل وفهم الاحداث، تنتشر لرغبة مطلقي هذه الدعايات من الاعلام المسيس لتحريض جماهيره الخاضعة لوسائل اعلامه، من دون ان يلتفت إلى أن هذه التحالفات وتطابق المصالح لا علاقة لها بوجود النزاع الاصيل، الذي يحث اطرافه على الاستقواء بكل القوى والدول الاقليمية، لتحقيق أهدافها، وبينما تستقوي كل الدول كايران والكرد باي قوة دولية كامريكا واسرائيل لمواجهة اعدائها، فإن دول العرب ومحمياتهم وحدها تستقوي بأمريكا وإسرائيل ضد بعضهم بعضا، ويستخدمهم حلفاؤهم كادوات بدل أن يستفيد العرب منهم.
ولا أعرف إن كانت هناك كل هذه النظرة المشوبة بالحذر والتوجس من «عمالة الكرد» وتآمرهم على «وحدة العراق»، فكيف بالمقابل يمكن اعتبارهم اخوة في الوطن في الوقت نفسه إذن؟ إن هذا يكشف رغبة في استمرار منطق الوحدة القسرية، التي تضم مواطنين بالقوة لا بالانتماء العميق، وهو عدم إدراك لأبجديات الدولة، وهي التي تقوم على شعب أو شعوب، منسجمة، بمشتركات قومية وثقافية ولغوية وذاكرة تاريخية متصالحة، وهو ما لا يتوفر لمعظم المكونات المتناحرة في دولنا في المشرق العربي.
ما يحدث في مسألة كردستان، هو تجاهل النظر للتاريخ والواقع الماثل أمامنا بمئات الأحداث والشواهد منذ مئة عام، كانت مليئة بثورات الاكراد، أي بعد سقوط الدولة العثمانية وتقسيم الاكراد بين أربع دول، أقامت كياناتها القومية ودولها الوطنية، بينما فشلت سبع دول كردية في البقاء، اشهرها جمهورية مهاباد التي كان الملا مصطفى بارزاني والد مسعود بارزاني أحد قادتها عام 1946، إذن هو نزاع أصيل ومتواصل لا بد من مواجهته بدلا من مواصلة إنكاره تحت الشعارات الخلبية الفارغة.
إن السؤال البسيط الذي كان على المنزعجين العرب من شعور الانفصال الكردي الإجابة عليه، هو انهم وبدل تحليلاتهم عن مؤامرة الانفصال الكردي، لو كانوا قد سألوا خمسين كرديا من جيرانهم او اصدقائهم عن رأيهم، أو رغبتهم باقامة دولتهم؟ وعندما تكون الاجابة بنعم لدى الاغلبية منهم، كما هي عند كرد العراق وسوريا وتركيا، فحينها يكون من الافضل فهم السبب المباشر والبسيط لما حدث، بدلا من البحث عن مخططات الصهيونية العالمية التي ينسب لها الكثير من العرب، عجزهم بكل شيء، بدءا من الفشل في مصالحة في جزيرة العرب، حتى العجز عن التوحيد بين فصيلين ثوريين في سوريا، وصولا للفشل في الوقوف بانتظام في طابور الخبز.