مسعود بارزاني تاريخ حافل وقيادة متميّزة
عبد الباسط سيدا
في أول لقاء مع الرئيس مسعود بارزاني في أوائل عام 2012 ضمن وفد المجلس الوطني السوري برئاسة الدكتور برهان غليون، أدركت بأننا أمام زعيم متميّز بكل المقاييس. قليل الكلام، يستمع جيداً إلى محدّثه بكل احترام. سريع البديهة من دون أي ادّعاء أو استعجال. يلتقط الجوهري في الحديث. يعطي ملاحظاته بكل تواضع. يستخدم الطرفة ويتقبلها بذكاء وارتياح لافتين. لا يفاخر بماضيه، يقدّم النصيحة الصادقة من موقع الخبير العارف بدهاليز السياسة، بنجاحاتها وإخفاقاتها.
استقبلنا بود صادق. واستمع إلينا بتعاطف وتفهّم ملموسين. ثم حدثنا عن تجربته مع النظام السوري قائلاً: لا أكتمكم أن الرئيس حافظ الأسد ساعدنا كثيراً. ومن باب الوفاء له، لم نتدخل في الشؤون السورية. وأتمنى أن تتفهموا ذلك. ولكن ابنه بشار ألحق الكثير من الأذى بالشعب السوري، ولا أعلم كيف يسمح رئيس لنفسه أن يفعل هذا بشعبه. إننا نتعاطف مع الشعب السوري، ونرجو له مستقبلاً كريماً.
تناول اجتماعنا موضوعات عدة تهم الجانبين. وأثناء الحديث توجه إلينا قائلاً: أريد أن أقدّم لكم نصيحة بناء على تجربتنا، وما حدث معنا. العالم لن يساعدكم بموجب عدالة قضيتكم، وحجم المجازر التي ترتكب بحق شعبكم. فنحن كنا نمتلك أطناناً من الوثائق التي تدين النظام السابق في قضايا حقوق الإنسان، والجرائم التي ارتكبها بحق شعبنا، ومع ذلك لم يتحرك أحد لمساعدتنا.
الدول ستساعدكم فقط في إحدى الحالتين: إذا كانت لديها مصلحة معكم، أو إذا كانت هناك مصلحة لها تستطيعون إلحاق الضرر بها. العالم يحكمه منطق المصالح. عليكم أن تتنبّهوا لذلك، وتكونوا على دراية تامة بما يدور حولكم.
ولكننا بكل أسف لم نستفد من نصيحته كما ينبغي، بل اعتقدنا أن المجموعة الضخمة من الدول التي أعلنت نفسها صديقة للشعب السوري ستقف إلى جانب شعبنا. ولكنها وقفت، كما قال لنا بارزاني، إلى جانب مصلحتها.
وفي لقاء آخر، كنا معاً في عاصمة أوروبية، توجه بارزاني إلى مسؤول أوروبي في الاجتماع، مدافعاً عنا، قائلاً: حلفاء النظام يمدونه بكل شيء. أما أنتم وعلى رغم ضخامة عدد مجموعتكم، لا تقدمون شيئاً للمجلس الوطني السوري. كيف سيتمكّن هؤلاء من الصمود والانتصار.
ومرة أخرى كان يستند إلى تجربته الطويلة في مقارعة أنظمة بغداد، وطبيعة تعامل المجتمع الدولي.
وفي لقاء آخر من اللقاءات العديدة التي كانت مع بارزاني، بعيد الانتخابات البرلمانية في الإقليم في خريف 2013، بدت الصورة غير واضحة بالنسبة لكيفية تشكيل الحكومة، إذ كان الاتحاد الوطني الكردستاني قد خسر مواقعه لمصلحة حركة التغيير، وكانت الأجواء متشنجة. سألت الرئيس بارزاني عن الخطوة التالية بخصوص موضوع تشكيل الحكومة، وكعادته طرح سؤاله المألوف بكل لطف: وما هو رأيك في الموضوع؟ أجبته: لست مطلعاً على تفاصيل الأمور عندكم. ولكن من خلال متابعتي للتطورات الإقليمية، واحتمال انعكاساتها عليكم، أرى ضرورة بناء حكومة وحدة وطنية بمشاركة حركة التغيير. وكان جوابه هو التالي: نحن نوافق على ذلك، ولكن شرط أن يكونوا جزءاً من الحكومة وحدها. ولن نقبل بأن يضعوا قدماً مع الحكومة وأخرى مع المعارضة. وتشكلت الحكومة المعنية، ولم تلتزم حركة التغيير بالقواعد المتعارف عليها في جميع الأنظمة الديموقراطية، وكانت الأزمة.
وجدته دائماً حريصاً على تجنب الاقتتال الداخلي. وكان يقول عنه باستمرار: لقد ابتلينا به، وأعرف تماماً كم هو مكلف ومرير. سنوات من الحوارات والمناكفات، ولا ساعة حرب. علينا أن نصبر ونتحمّل.
يوصي على الدوام بضرورة الحفاظ على أفضل العلاقات مع شعوب المنطقة، ومع العرب على وجه التحديد. وعلى رغم حلمه المشروع والخاص بالاستقلال كأي كردي عانى الويلات من الأنظمة التي اضطهدت الكرد، كانت الحكمة تلزمه بالعمل من أجل المشروع الوطني ضمن العراق. ويتطلع إلى حل القضية الكردية سلمياً في تركيا وسورية وإيران على أساس احترام الحقوق والخصوصيات من أجل الوحدة الوطنية.
غير أن الأمور في العراق تدهورت وإلى أبعد الحدود، وبات النظام الإيراني متغلغلاً في أدق تفاصيل الدولة والمجتمع العراقيين، فطرح مشروع الاستفتاء، وأبدى استعداده للحوار حول الموضوع، كما وعد بمتابعة الحوار في مرحلة ما بعد الاستفتاء.
ولكن المجتمع الدولي الذي لم يجد مصلحة له في الخلاص الكردي، آثر غضّ النظر عن ممارسات الحكومات الإقليمية التي وجدت من دون وجه حق في القضية الكردية مشكلة لها، وعزمت كعادتها على التصدي لها عبر الوعيد واستخدام القوة، وقد ساعدها في ذلك بعض الكرد ممن أعماهم الحقد، وحركتهم العقد.
وفي مواجهة كل ذلك تحمّل بارزاني المسؤولية بكل شجاعة وبعد نظر، وأصرّ على ترك الرئاسة من موقع القادر، وسلّم الأمانة إلى برلمان كردستان. وقطع بذلك الطريق على المتربصين الذين كانوا يخططون لاقتتال كردي – كردي، وآخر كردي – عراقي، وربما كردي – إقليمي.
بعضهم يلوم الرجل بأنه أخطأ في الحسابات، ولم يحسب الحساب لخيانة بعضهم، ولركوب الحشد الشعبي أكثر الدبابات الأميركية حداثة. لكن التاريخ سيسجل له بأنه جسّد إرادة الكرد بكل وضوح وشهامة، ولم يتهرب من مسؤولياته، بل تحملها بنبل غير مسبوق في منطقتنا. ترك الرئاسة ولكن الزعامة ستلاحقه، فهو الزعيم التاريخي لشعب تعرّض لاضطهاد قلّ نظيره، وشهد أهوالاً تتمرّد على الوصف، ومني بقسط من القيادات لم تتمكّن من تجاوز أنانياتها.
لقد ترّجل كاكا مسعود/ الأخ مسعود، وهو اللقب الذي عرفه به شعبه، من موكب الرئاسة ليكون بين ناسه، يستمر في نضاله معهم ومن أجلهم، وبعد أن أنجز استفتاء الاستقلال بأصوات أكثر من ثلاثة ملايين من سكان الإقليم. وهو استفتاء لن يزول مفعوله بأي تجميد أو إلغاء.
إنها مرحلة صعبة، قاسية، يعيشها الكرد من دون شك، وإقليم كردستان على وجه التحديد. ولكن الأمل هو أن تكون هذه الخطوة النادرة في شرقنا مقدمة للتفكير في احترام إرادة الشعوب وتطلعاتها.