حروب «الكردستاني» في سورية وقودها الأطفال والشعارات والكلام المضلِل
هوشنك أوسي
نشرت «وحدات حماية المرأة (YPJ)» صورة للطفلة أفين أكرم صاروخان (مواليد 2005 – الدرباسية) بالزي العسكري، في صفحتها الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي (فايسبوك) مرفقة بعبارة: «جمالك ورقتك لا يخفيان الثورة التي بداخلك». كذلك جاء نشر «الوحدات العسكريّة النسائيّة الكرديّة» لتلك الصورة بعد إثارة عائلة أفين مسألة اختطافها من قبل عناصر «حزب الاتحاد الديموقراطي» (الفرع السوري للعمال الكردستاني) وما رافق ذلك من ضجّة إعلاميّة في قنوات التلفزة الكرديّة المعارضة لـ «الكردستاني»، وعلى مواقع التواصل الاجتماعي. وعليه، فإن نشر صورة أفين، من دون الإشارة إلى اسمها ومكانها، من قبل خاطفيها، ومع تلك العبارات الدعائيّة، لا يمكن فهمه إلاّ في إطار التحدّي والإصرار على اتباع تجنيد القاصرات والزجّ بهنّ في حروب «حزب العمال الكردستاني» التي انتقلت من تركيا إلى سورية، بعد اندلاع الثورة السورية في منتصف 2011، ودخول الحزب في تحالف وتنسيق خفي- معلن مع النظام السوري، ينكره الموالون للحزب، ويؤكده النظام السوري، والكثير من المعطيات والوثائق.
ليس من باب تأكيد المؤكّد بالوثائق والأدلّة، وتفنيد النفي الكاريكاتوري الذي ينزلق نحوه العاملون في إعلام «حزب الاتحاد الديموقراطي»، حيال علاقة «العمال الكردستاني» بالنظام السوري، واستخدام الأوّل كردَ سورية حطباً لحروبه في سورية ضد التنظيمات الإرهابيّة، في محاولة كسب الدعم الدولي وإزالة صفة الارهاب عن نفسه، ليس ذلك، مناسبة هذه الأسطر، بل مناسبتها طرح تساؤل: هل ظاهرة تجنيد الأطفال محصورة في «الكردستاني» وحسب؟ ولماذا يجد الحزب نفسه مضطراً لذلك؟
لا يخفى أن ظاهرة تجنيد الأطفال أكثر شيوعاً في المناطق التي تمزّقها الحروب الأهليّة، إذ يحاول كل طرف من الأطراف المتقاتلة على خلفيّات سياسيّة أو عقائديّة أو قوميّة أو مذهبيّة… عسكرة بيئاته الاجتماعيّة واستنفارها للحدود القصوى ضد الأخطار الوجوديّة التي تتهددها من الجماعات والأطراف الأهليّة (المعادية) الأخرى. وفي هذا الإطار، يتم استنهاض وتغذية وتأجيج الحميّات والعصبيّات القوميّة والعرقيّة والدينيّة وتوظيفها في عمليّة العسكرة والتجييش العقائدي السياسي والعسكري، وصولاً الى تشكيل نواة وقاعدة صلبة شديد التزمّت والعماء والأدلجة تكون جوهر القضيّة الوجوديّة التي ينبغي أن تبذل الجماعة الأهليّة الدماء في سبيل الحفاظ على هويّتها ووجودها وكينونتها واستمرارها، وتشكيل قناعة مفادها أن وجود وديمومة الجماعة لن تقوم له قائمة إلاّ بالقضاء على الأخطار الآتية من الجماعات والأطراف المعادية الأخرى.
وكلما أريقت دماء في معارك «الصمود والوجود»… تطالب الجماعة السياسيّة المسلّحة بيئاتها الاجتماعيّة الحاضنة ببذل المزيد من الضرائب من الدم والمال تحت تسمية الفعل والوعي الوطني، أو الفعل والوعي الجهادي الديني وإقامة شرع الله. كذلك تسعى الجماعات السياسيّة المسلّحة إلى تكريس وترسيخ قناعة لدى بيئاتها الاجتماعيّة الحاضنة بأنها مدينة لهذا الحزب أو المنظمة أو التيّار الذي يقاتل دفاعاً عن شرف وعرض وكرامة وحقوق وجود وهويّة هذه الجماعة الأهليّة.
ضمن هذه العمليّة، يلعب الإعلام والتوجيه (التضليل) المعنوي وكل أدوات الثقافة والفنّ أدواراً مهمّة واستراتيجيّة، في عمليّة الفرز الاجتماعي على أساس قومي ووطني وديني بين قوميين، وطنيين وعملاء وخونة، وبين مؤمنين ومجاهدين وكفرة وملاحدة. ودوماً تسعى الآلة الإعلاميّة والثقافيّة (التوجيهيّة)، إلى تعزيز وتغذية الشعور بالمديونيّة لدى بيئاتها الحاضنة تجاه الحزب المقاتل في سبيل قضيّة الشعب، (الجماعة) الأمّة أو الدين (الجماعة)، الطائفة والمذهب بهدف زيادة ربط البيئات الحاضنة بالنواة العقائديّة الآيديولوجيّة وتوثيقها بالدم. ومعلوم أنه في زمن التمزّقات الاجتماعيّة العميقة التي تعبّر عن نفسها على شكل حروب أهليّة، تتم شرعنة وإباحة كل ما هو ممنوع ومخالف للقانون، ومن ضمن هذه الانتهاكات، ظاهرة تجنيد الأطفال (الأحداث والقاصرات). الحروب الأهليّة في لبنان، العراق، أفغانستان، السودان، الصومال، سيراليون، بوروندي، رواندا… الخ تشكل نماذج.
كذلك في مراحل التحرر الوطني، تلجأ الأحزاب العقائديّة القوميّة واليساريّة التي تتبنّى نهج الكفاح المسلّح وسيلة لتحرير الوطن من الاحتلال والاستعمار الاجنبي، إلى تجنيد الأطفال، بهدف تشكيل قواتها المسلّحة. هذه القوات غير النظاميّة، غالباً ما تدخل في حرب عصابات مع جيوش وقوات نظاميّة تابعة لدول. وأيضاً يتم اسباغ الكثير من الكلام البرّاق والشعارات القوميّة والوطنيّة والاجتماعيّة التحرريّة على عسكرة المجتمع، وأسطرة القتال والمقاتلين في سبيل حريّة الشعب والوطن والقضيّة، بهدف جذب أكبر عدد ممكن من المقاتلين. وتلعب البروغاندا الحزبيّة والعقائديّة والآيديويولجيّة عبر الإعلام والثقافة والفن، دوراً بارزاً في الجذب والتجييش وإلهاب المشاعر وتأجيجها للحدود القصوى وتأليبها على الأطراف المعادية للقضيّة القوميّة للشعب المنتمية للشعوب الأخرى، ثم تأليبها على الأطراف المعادية لنهج وفكر الحزب، على الصعيد المحلّي الداخلي. فمن ناحية تضخّ الآلة الإعلاميّة للحزب كميّة هائلة من الدعاية والتحفيز الحزبي والعقائديّ على القتال وحمل السلاح، تحت شعارات كبيرة وبرّاقة وفضفاضة، وفي مكان آخر، يتنازل الحزب عن شعاراته الكبرى بهدف تحقيق مكاسب حزبيّة ضيّقة. وعليه، لجأت الفصائل الفلسطينيّة إلى تجنيد الأطفال، تحت شعار تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وإزالة إسرائيل من الوجود في سياق الكفاح المسلّح ضد إسرائيل. وتحت الشعار نفسه، أريقت الدماء الفلسطينيّة بين الفصائل الفلسطينيّة نفسها. كذلك فعلت بعض الفصائل اليساريّة اللبنانيّة، بشعارات مختلفة. ونحت جبهة التحرير الجزائريّة هذا المنحى أثناء حرب التحرير الوطنيّة. ولم تشذّ أحزاب وفصائل كرديّة عن هذا السلوك. ويكفي القول إن مسعود بارزاني وجلال طالباني حملا السلاح وهما لم يتجاوزا السادسة عشرة من عمرهما.
هذا السلوك في الدعاية العقائديّة- الآيديولوجيّة الهادفة إلى العسكرة وتجنيد الأطفال، وتكرار أن الشعب مدين للحزب وتضحياته وأفكار زعيمه، مارسه ويمارسه «حزب العمال الكردستاني» على مدى ثلاثة عقود ونيّف. وكثيراً ما نجد في كتب أوجلان وأدبيات «الكردستاني» عبارات وأفكار مفادها أن الأخير هو بعث الأمة الكرديّة، أو الحزب الذي سطّر ملحمة انبعاث الشعب الكردي من الموت. لكأنّ الكرد لم يكونوا موجودين قبل وجود «العمال الكردستاني» وزعيمه!؟ هذا التكرار والتأكيد على مديونيّة الشعب الكردي لـ «الكردستاني» وزعيمه لدرجة التكريس، الهدف منه خلق أكبر قدر ممكن من الولاء والطاعة للحزب. وكل ذلك تحت شعارات التحرير والتحرر القومي والسياسي والاجتماعي وبناء المجتمع الديموقراطي الايكولوجي- البيئي الحرّ.
بعد اندلاع الثورة السوريّة في آذار (مارس) 2011، نقل «العمال الكردستاني» ساحة معاركه إلى سورية، لأسباب كثيرة. فمنذ 1984 ولغاية 2010، كان الحزب يعتبر المناطق الكرديّة السوريّة جبهته الخلفيّة في صراعه ضدّه تركيا وحكوماتها. بينما في 2011 وحتى هذه اللحظة، صار الحزب يعتبر كردستان تركيا جبهته الخلفية في صراعه مع تركيا وأذرعها في المعارضة السوريّة، على الأراضي السوريّة. بحيث تغيّرت ساحات القتال، وبعض تفاصيل التحالفات، ولكن بقيت بعض العادات والتقاليد موجودة ومتأصّلة، يستحيل على الحزب التخلّي عنها، لأسباب يطول شرحها. ومن هذه الخصال والعادات والتقاليد، تجنيد الأطفال. هذا الانتهاك الذي يعتبر من جرائم الحرب التي لا تسقط بالتقادم، ينفي الحزب وأنصاره ارتكابه، ويردّون بكلامٍ من طينة: «هذا الاتهام عار عن الصحة، وتروّجه تركيا وأدواتها، بهدف تشويه سمعة الحزب والمقاتلين والمقاتلات». والحقّ أن كل ما يقولوه «الكرستاني» وأنصاره وكتّابه ومثقفوه، عن الحكومة التركيّة وفظائعها بحق الأكراد والاتراك داخل تركيا، هو صحيح، وكذلك فظائع هذه الحكومة ودعمها للتنظيمات التكفيريّة النشطة في سورية، هو أيضاً صحيح. ولكن «الكردستاني» واستطالاته السياسيّة والعسكريّة في سورية، غير أبرياء من أشياء كثيرة ومنها تجنيد الأطفال والقاصرات. بل إن الآلة الإعلاميّة التابعة للحزب، التي تتحدّث ليلاً نهاراً عن ضرورة دمقرطة المجتمع، وبناء المجتمع الايكولوجي، والأمة الديموقراطية، وأخوة الشعوب، والدفاع عن حقوق الأطفال والمرأة، هذه الآلة، تستثمر في شكل رخيص ومبتذل صور المقاتلات الكرديّات، في إطار الدعاية المسلّحة والتحريض على حمل السلاح والقتال. وعلى سبيل الذكر لا الحصر، نشرت الصفحة الرسمية لـ «قوات حماية المرأة» على «فايسبوك» صور مقاتلات كرديّات، مرفقة بالعبارات التالية: «جمالك ورقتك لا يخفيان الثورة التي بداخلك»، «عندما تبتسمين يخاف عدوك.. فكيف عندما تحملين السلاح»، «أنت الثورة والغضب.. انت أمل الأجيال القادمة… اضحكي .. ثوري.. لا تهابي شيئا»… وهذه الاقتباسات موثّقة بصور عن الصفحة المذكورة.
وفي السياق ذاته، تعرّف «وحدات حماية المرأة» الكرديّة (التابعة لـ»العمال الكردستاني») نفسها على موقعها الرسمي بكلامٍ مبهم، قائلةً: «وحدات حماية المرأة هي قوة عسكرية أساسية وطنية، تتمحور حول المجتمع الديموقراطي الإيكولوجي وحرية المرأة، وخط الدفاع المشروع ضد كل الهجمات التي يتعرض لها مجتمعنا وشعبنا والمرأة من أجل بناء سورية ديموقراطية وكردستان حرة».
ما يؤكد ويوثّق تهرّب هذه الوحدات العسكريّة النسائيّة من الاتفاقات التي أبرمتها مع جهات ومنظمات أوروبيّة مناهضة لتجنيد الأطفال، نشر هذه «القوات» في موقعها الرسمي على الانترنت سجلّات عشرات المقاتلات الكرديّات فقدن حياتهن في المعارك، مع ذكر تواريخ الوفاة- الاستشهاد، وشطب تواريخ الميلاد؟! وهناك استثناءات قليلة من المقاتلات التي تعود تواريخ ميلادهن إلى الثمانيات أو مطلع التسعينات. ولا يوجد تفسير آخر للتكتّم على تواريخ ميلاد المقاتلات اللاتي فقدن حياتهن، غير أنه تم تجنيدهنّ في سنّ مبكّرة.
خلاصة القول: حتى ولو وقّعت «قوات الحماية الكرديّة (YPG)» التي تتبع لها «قوات حماية المرأة (YPJ)» وكلها أذرع تابعة لـ «العمال الكردستاني»، على اتفاقيّات وتعهّدات دوليّة بخصوص منع تجنيد الأطفال، الذي يعتبر جريمة حرب، فإن الحزب سيبقى يواصل هذا الانتهاك. وهذا ما يحصل حالياً، وتؤكده المعطيات والوثائق والأحداث. ولو أخذنا بالأسباب والمبررات التي تدفع الجماعات المسلحة إلى تجنيد الأطفال والقاصرات، فإن المناطق الكردية في سورية، لا تشهد حرباً أهليّة، ولا تشهد حرب تحرير وطنيّة ضد النظام السوري، فلماذا إراقة كل هذه الدماء، تحت هذه الشعارات الفضفاضة التي يمكن أن تتبناها منظمة مجتمع مدني تدافع عن حقوق المرأة والطفل والمجتمع، وليس حزب أو جماعة مسلحة تدعو للحرب ورفد الدماء المراقة بالمزيد من إراقة الدماء حتى تبقى طاحونة الحزب تدور وتدور؟! أبعد من ذلك، أي حزب أو جماعة سياسيّة، مهما كانت شعاراتها نبيلة وعظيمة وبرّاقة، فإن لجوءها إلى تجنيد الأطفال والقاصرات، يجعلها تنزلق نحو سلوك منطق وذهنيّة الميليشيات والمافيا، وتبعد من ثقافة وأخلاق حركات التحرر الوطني والاجتماعي الثوريّة، كما هو وارد في الأدبيّات الرومانسيّة التي تسوّق لحركات كهذه.
الحياة