البديل السوري المنتظر
عبدالباسط سيدا
لا يختلف اثنان حول صعوبة الواقع السوري الراهن، وحول كارثية الأوضاع التي عاشها، ويعيشها، السوريون على مدى أكثر من سبعة أعوام شهدت من الأهوال ما يتمرّد على أي وصف.
كل ذلك أمام مرأى ومسمع العالم بأسره، هذا العالم الذي ربما لم يتوافق على شيء كتوافقه على ترك السوريين لمصيرهم، يواجهون بمفردهم وحشية النظام ورعاته من الروس والإيرانيين، والميليشيات المذهبية والمخابراتية.
وقد استغلّ هؤلاء عطالة المجتمع الدولي، وعقم النظام العربي الرسمي، وتمكّنوا من إشغال الدول الإقليمية التي كانت إلى جانب السوريين بقضايا تمثل أولوية بالنسبة إليها. وتجسّد كل ذلك في تلاشي مفعول “مجموعة أصدقاء الشعب السوري” التي بلغ عدد أعضائها ذات يوم نحو المئة دولة.
وهكذا أصبحنا في مواجهة توافق دولي إقليمي غير معلن رسميًا، لكن نتائجه الواقعية تظهر تباعًا على الأرض، من خلال رسم حدود مناطق النفوذ، وقيام كل طرف بمهمة “المتعهد” لضبط الأوضاع وتسويتها بكل الوسائل، وذلك ضمن المنطقة التي ستكون من حصته بموجب التوافق المشار إليه.
ولعل هذا ما يفسر واقع الصمت المطبق في مواجهة القصف الروسي المسعور الذي كان لمناطق الغوطة، وقبلها حلب، والتهديد بقصف ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي، وكل ذلك بالتشارك مع القوات الإيرانية، والميليشيات التابعة لها، هذا فضلًا عن قوات النظام والميليشيات الدائرة في فلكه. كما أن العمليات الإسرائيلية، التي استهدفت مؤخرًا القواعد الإيرانية في منطقة الجنوب، تندرج هي الأخرى في سياق عملية الضبط المشار إليها.
ونحن لا ننكر في هذا المجال أن حالة من التشاؤم، إن لم نقل من اليأس، قد هيمنت على أوساط واسعة من السوريين، لا سيما بعد عمليات التهجير التي جرت في منطقة الغوطة، وتجري حاليًا في ريف حمص الشمالي وحماة الجنوبي. وهي عمليات باتت معروفة المنحى والمقصد.
وهذه الحالة شبيهة، بل استمرارية لتلك التي كانت بعد ما حصل في حلب، وسيطرة النظام عليها بقوة الروس والإيرانيين، في مواجهة صمت الآخرين.
إذا تركنا العوامل الإقليمية والدولية جانبًا، وتوقفنا عند العامل الذاتي السوري، وما نعنيه بذلك هو تناول دور هيئات الثورة والمعارضة السياسية، والفصائل العسكرية، التي تعرف جميعها في يومنا الراهن تجاوزًا بالمعارضة السورية؛ وجدنا أن الحالة التشرذمية التي نشكو منها راهنًا إنما هي نتيجة منطقية لتلك المقدمات التي بدأنا منها.
فمنذ البداية، كنّا على دراية بأن المهمة صعبة جدًا، وذلك في ظل عدم وجود أحزاب قوية مستعدة لتحمّل أعباء الثورة، والتعامل مع مختلف التحديات بموجب استراتيجية متكاملة، تقوم على توزيع المهام والأدوار، وبناء العلاقات مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي، بما تقتضيه موجبات الثورة ومصلحة السوريين.
أما الأحزاب الموجودة فقد كانت تعاني من التشرذم، والخصومات البينية. كما كانت تعاني من الترهّل وعدم القدرة على استيعاب ما يجري، فضلًا عن العجز في التأثير فيه.
ومع ذلك، كانت ظروف الثورة تلزمنا بالعمل الجاد الشاق، بغية الوصول إلى صيغة ما لتأطير الجهود، وقيادة الطاقات الهائلة التي تفجّرت هادرة واعدة لدى الشباب السوري في مختلف المناطق.
وكان المجلس الوطني السوري الذي قلنا عنه منذ البداية إنه مشروع وطني مفتوح غير ناجز، وغير كامل. وكانت الآمال بأن يتمكّن المجلس المعني من توحيد الصفوف، وتركيز القدرات. غير أن الخصومات الحزبية العصبوية فعلت فعلها، وكان الهجوم عليه من قبل قسم من المعارضين السوريين الذين ظلوا لأسباب متعددة خارجه.
كما أن الخلافات الداخلية هي الأخرى قد أضعفته، وكل ذلك فتح المجال أمام العديد من الدول لتناسي وعودها، والعمل من أجل هندسة جسم يتناسب مع حساباتها واستراتيجياتها.
ولكن رغم كل شيء، يمكننا الاستفادة مما حصل والبناء عليه، عبر التركيز على مواطن القوة، ومعالجة بواعث الضعف.
فشبابنا اليوم يمتلكون طاقات معرفية وتنظيمية هائلة. كما أنهم قد اكتسبوا خبرة لا تضاهى في ميادين العمل المدني، والسياسي المؤسساتي. وهم يمتلكون رؤية واضحة مستوعبة لأسباب ما حدث، وطبيعة العمل المطلوب استعدادًا لتحديات المستقبل.
لدينا اليوم أعداد لافتة من الباحثين والناشطين السياسيين الشباب، ممن يمتلكون نضجًا مطلوبًا في ميدان التحليل وتحديد الأسباب، واستقراء العوامل المشتركة المؤثرة، واستشفاف أبعاد المستقبل. وكل ذلك، بالاستفادة من نتائج الأبحاث الميدانية والدراسات المختصة، التي تتمحور حول سورية والمنطقة في ضوء الاستراتيجيات الإقليمية والدولية.
كما أن الأغلبية الغالبة من السوريين والسوريات قد توصلوا إلى قناعة تامة بضرورة رحيل هذا النظام، بعد كل ما ألحقه بالبلد من تدمير على المستويين المجتمعي والعمراني. فهذا النظام كان يمتلك في بداية الثورة كل أسباب القوة والسلطة. ولا مجال للمقارنة بين سجله الوحشي الإجرامي الآن، وبما كان عليه في ذلك الحين. ومع ذلك فقد خرج ملايين السوريين في بداية الثورة منددين باستبداده وفساده، وطالبوا برحيله.
أما الآن، بعد أن أصبح البلد حطامًا، وبات الشعب مجموعات من المهجرين واللاجئين والخائفين من المستقبل المجهول، وبعد أن تلمس السوريون مباشرة النتائج الكارثية للمشاريع الإقحامية الوافدة من وراء الحدود، بأسمائها وبرامجها المختلفة من مذهبية أو قوموية؛ غدت الأرضية مهيأة لتشكيل بديل وطني حقيقي بقدرات وجهود الشباب، لأن المستقبل والمصير هما في نهاية المطاف مستقبل ومصير جيلهم وأبنائهم وأحفادهم.
أما جيل المخضرمين، فقد أدى دوره ضمن حدود المستطاع، ويبدو أنه لن يكون في مقدوره فعل المزيد من موقع القائد أو الوصي، وإنما يمكنه أداء دور استشاري توجيهي، يتكامل مع المهارات والإبداعات والطاقات الشبابية.
لنعترف بالإخفاق المرحلي الذي نعيشه راهنًا بقساوته ومراراته. ولكن في جميع الأحوال يمكننا الاستفادة مما حصل، بل ليس أمامنا أي خيار آخر سوى فعل ذلك، حتى نتمكن من تحويل الفشل إلى مصدر للخبرة، وأداة تساعدنا في القراءة الصحيحة، كل ذلك تمهيدًا لتبلور ملامح عمل وطني شامل، عمل يكون بكل السوريين ولكل السوريين، وتكون مهمته المحورية إنجاز القطع مع الاستبداد وتوءَمه الفساد، بصرف النظر عن الأسماء والألوان والأطياف.
geroun