الأحزاب السياسية في سورية 1970 – 2011
حسن النيفي
قدم هذه الدراسة تحليلاً مهماً لمسار العمل الحزبي في سوريا منذ استلام حزب البعث السلطة في البلاد مطلع الستينيات وتركز على أسباب غياب العمل الحزبي الحقيقي بعد انقلاب حافظ الأسد وتفرده بالسلطة خصوصاً بعد حوادث الثمانينيات من القرن المنصرم؛ ليستمر الكاتب في تحليله لأسباب غياب الأحزاب عن الفعل في الشارع السوري حتى قيام الثورة من خلال محاور منها:
أين دور الأحزاب السياسية في الثورة؟.
دور حافظ الأسد في القضاء على الحياة الحزبية.
منعطف الثمانينيات وتداعياته المرعبة.
ثقافة الرعب التي أسسها نظام الأسد الأب.
الأحزاب وثقافة الرعب الأسدي.
السمات المشتركة لأحزاب المعارضة التقليدية السورية.
الكيانات السياسية فجر الثورة لماذا ظهرت ولم اختفت؟.
الحاجة الاجتماعية إلى الأحزاب السياسية.
التمهيد
ما إن انطلقت شرارة الثورة السورية في آذار 2011، وبدأت دوائر الحراك الثوري السلمي تتسع لتشمل المدن والبلدات السورية معظمها، حتى بدأ يتسرب إلى أذهان كثيرين من السوريين سؤالٌ ظلّ غائباً طوال عقود من الزمن: (أين دور الأحزاب السياسية السورية في هذه الثورة)؟.
أين دور الأحزاب السياسية السورية في هذه الثورة
لا شك في أن الانطلاقة العفوية للثورة السورية، والانتشار الأفقي لحراكها السلمي، وكذلك سيرورتها غير المنظمة، كافية للدلالة على انعدام أي دور حزبي في إطلاق شرارتها، ولكن السؤال السابق يستمد مشروعيته من حاجة الحراك الثوري إلى عملية التنظيم والتنسيق بالدرجة الأولى، وكذلك رفْد الشارع الاجتماعي الثائر بالمضامين السياسية التي تعبر عن مطالبه وتوجهاته، فضلاً عن الارتقاء التدريجي بالثورة من حالة الفوضى إلى حالة الانتظام والمأسسة. إلّا أن نتائج انتظار الشارع السوري لدور الأحزاب ظلت معلّقة، وربما كانت معلومة لدى شريحة واسعة من المواطنين، لعلْمهم السابق بشحوب الحياة السياسية في سورية من جهة، ولإدراكهم أيضاً بأن قيادة الحراك الثوري أو توجيه مساره بحاجة إلى أحزاب بلغت مرحلة متقدمة من النضج، وهذا ما لم يكن موجوداً في سورية.
ولعل من البداهة القول: إن إشكال غياب الأحزاب السياسية ليس ظاهرة معزولة عن الشأن العام لمنظومة السلطة الحاكمة في سورية، بل هو مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجذر الحقيقي للمشكلة السورية، ألا وهو الاستبداد.
عزّز الانقلابان العسكريان في سورية (آذار 1963 – شباط 1966 ) مزيداً من الدراية العملية لدى (حافظ الأسد)، ليقود الانقلاب الثالث (1970 ) ببراعة جعلته يغلق الثغرات جميعها التي وقع فيها سابقوه، وكذلك مكّنته إحكام قبضته بقوة على مفاصل البلاد إحكاماً أدّى في النتيجة إلى اختزال الدولة بالسلطة، ومن ثم اختزال السلطة بالحاشية، الأمر الذي أظهر –خلال سنوات قصيرة– هيمنة شاملة للسلطة (الحاشية) على الدولة السورية، ليس بوصفها كياناً جغرافياً فحسب، بل على الشرايين الحيوية كافة التي تستمد منها الدولة وجودها الجوهري (الاقتصاد – السياسة – الثقافة – الدين …إلخ).
ولئن كانت القوة الأمنية هي الأداة الناجعة لتوطيد دعائم الاستبداد، إلّا أنها تغدو أكثر نجاعةً، حين يدفع المستبدّ نحو منهجتها، إذ يتحول استخدام القوة من طور الممارسة المرتجلة التي تمليها الضرورة الراهنة، إلى طور(القوْننة)، وهذا ما فعله حافظ الأسد في خطوة أولى نحو مصادرة السياسة من المجتمع السوري حين استحدث المادة(8) من الدستور التي تقرّ بقيادة حزب البعث للدولة والمجتمع. وفي خطوة تالية عام(1972) وبقرار رئاسي أمر باستحداث ما يُدعى بـ (الجبهة الوطنية التقدمية) التي تتحدّد سماتها الأساسية بما يأتي:
1 – شُكّلت هذه الجبهة بقرار سياسي، وليس لوجود الأحزاب المنضوية تحتها أي صفة قانونية، بل يمكن إلغاء وجودها بقرار سياسي أيضاً.
2 – خضوع أحزاب هذه الجبهة جميعها لمراقبة أمنية شديدة، بل إن عدداً من كوادرها الحزبية لا تخفى ارتباطاتهم الأمنية مع فروع الاستخبارات السورية وأقسامها.
3 – عدم وجود أي دور سياسي فاعل لهذه الأحزاب، وإبعادها عن صنع القرار وجعلها ملحقة بالسلطة ولا تحظى بأي قدرة على المبادرة، بل هي لا تملك الحق بإصدار جريدة أو مطبوعة من دون موافقة أمنية.
4 – لقد أدت هذه الأحزاب وظيفة دعائية لنظام الأسد الذي كان يحرص على إيهام الآخرين بأن ثمة أحزاباً في سوريا غير حزب البعث.
منعطف الثمانينيات وتداعياته المرعبة
لقد تحوّل خوف المواطن من العقاب حيال ممارسته لأي نشاط سياسي إلى خوف من موت محتمل أو تغييب قسري سنوات بل عقوداً من الزمن، وذلك بعد المنعطف الحاسم الذي حصل عام 1980 نتيجة المواجهة المسلحة بين جماعة الإخوان المسلمين ونظام الأسد، ولم يتردّد حافظ الأسد آنذاك في العمل بالوسائل كلها لسحق خصومه، وكان من نتائج تلك المواجهة عدداً من المجازر التي ارتكبها النظام في حلب وإدلب وجسر الشغور. ثم تلا ذلك الإجهاز على مدينة حماة في شباط 1982 والتنكيل بأهلها في مدى شهر كامل لم يتوان رجال النظام عن ارتكاب أسوأ أصناف الإجرام وأقذرها.
لم تكن النتائج الأمنية والسياسية لحوادث العنف الدامية سنة 1980 لتطال الإخوان المسلمين وحدهم، بل إن تداعيات تلك المرحلة قد أحاطت بالسوريين جميعهم، ويمكن إيجاز الانعكاسات المباشرة من الناحيتين السياسية والأمنية في ما يأتي:
1 – ازدياد التغوّل الأمني في أجهزة الدولة ومؤسساتها، بل يمكن القول بكل يقين: إن بضع جنرالات أصبحوا القابضين على عنق السوريين، بتفويض كامل من حافظ الأسد، (رفعت الأسد – علي حيدر – شفيق فياض – علي دوبا – هشام بختيار) لأن هؤلاء هم الذين حافظوا على عرشه من خلال سحقهم وبكل شراسة لأي مظهر من مظاهر المعارضة السورية، لهؤلاء يدين نظام الأسد في مرحلة الثمانينيات في تدشين مرحلة جديدة بدت سوريا من خلالها أكثر إذلالاً وبؤساً.
2 – الانقضاض على المعارضة السياسية بأطيافها كلها (الإسلامية والشيوعية والقومية) والبطش بكل صوت يتجرأ على نقد السلطة، الأمر الذي جعل السجون والمعتقلات ومراكز التحقيق تغص بالمعتقلين السياسيين بمختلف توجهاتهم.
3 – استحدثت سجون جديدة نظراً إلى كثرة أعداد المعتقلين، ومنها سجن تدمر العسكري الذي جرى تأهيله في بداية العام 1980، وفي شهر حزيران من العام ذاته أقدم (رفعت الأسد) شقيق حافظ الأسد، وقائد سرايا الدفاع آنذاك، على ارتكاب مجزرة في هذا السجن أودت بحياة (800) معتقل من الإسلاميين، وذلك في إثر محاولة فاشلة لاغتيال أخيه حافظ الأسد، وفي العام ذاته أصدر القانون (49) الذي يتضمن عقوبة الإعدام لكل من يثبت انتماؤه لتنظيم الإخوان المسلمين. لقد مهّد هذا القانون لسلسلة طويلة من الإعدامات والتصفيات الجسدية استمرت من العام 1980 وحتى منتصف التسعينيات، وذلك من خلال محاكمات ميدانية صورية لا تحظى بأي حدّ من الأعراف القانونية، وكانت تجري هذه المحاكمات التي تتبعها حالات الإعدام بإشراف رئيس المحكمة الميدانية في سورية اللواء (سليمان الخطيب).
4 – لم يقتصر بطش النظام على القوى السياسية التي حملت السلاح في مواجهة السلطة، أي جماعة الإخوان المسلمين فحسب، بل استهدف أيضاً الأحزاب المعارضة التي تتحفظ على حمل السلاح، وتدعو إلى النهج السلمي في معارضة السلطة. وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن معتقلي الرأي السلميين في سوريا ممن تقدموا إلى محاكم استثنائية بعد عام 1980 معظمهم قد قضوا في السجن مدّة تراوح بين (8 سنوات إلى 20 سنة).
5 – انحسر دور حزب البعث الحاكم وتحوّل إلى مؤسسة حزبية أمنية رديفة لأجهزة الاستخبارات، إذ يتلصص البعثيون الناشطون على المواطنين وتزويد القوى الأمنية بالتقارير التي ترصد سلوك الناس وأحاديثهم ومجمل نشاطهم.
ثقافة الرعب التي مارسها النظام الأسدي على الجميع
كان لا بدّ لهذه الحالة من الرعب أن تنعكس انعكاساً مباشراً ليس على الحالة السياسية في البلاد فحسب، بل على الأوضاع الاجتماعية التي بدأت تتلوّث بفعل الهواجس الأمنية التي استطاعت السلطة أن تزرعها في أنفس المواطنين، وبدت هذه المخاوف هي الموجه الرئيس لسلوك كثير من الناس الذين بات معظمهم لا يتجاوز اهتمامه درجة التفكير في تأمين قوت عائلته.
لقد كان مطلع الثمانينيات بداية حقيقية لإرساء ثقافة الرعب من الدولة التي جرى اختزالها في شخص الحاكم وحاشيته، وجرى اختزال مفهوم الوطنية بالولاء للقائد الذي بات يملك حق الوصاية على السوريين جميعهم وعليهم دوماً تقديم الولاء لرموز السلطة حتى يحصلوا على نعمة الأمان.
وأوجد الإدمان المستمر على الشعور بالخوف لدى عامة الناس إحساساً عاماً لديهم بأنهم متهمون على الدوام، ولن يدفع عنهم شبح التهمة سوى مزيد من تقديم الولاءات بمناسبة ومن دون مناسبة، ولعل هذا ما يفسر لنا كيف كانت تُنسب الفضائل والمنجزات كلها في سوريا إلى القائد، فهو العالم الأول والطبيب الأول والمهندس الأول….، وهو صمّام الأمان الذي لن تحيا سوريا من دونه. وفي موازاة ذلك ثمة ابتعاد وتحاشٍ لكل ما من شأنه المساس بالسلطة، الأمر الذي جعل العمل الحزبي المعارض ضرباً من المغامرة التي يمكن أن تودي بصاحبها إلى الهاوية، بل بات الاقتراب من العمل السياسي شبهة تستوجب العقاب الذي لا يمكن التكهن بحدوده.
الأحزاب وثقافة الرعب الأسدي
حيال الأوضاع الأمنية السالفة كان ثمة خياران لا ثالث لهما أمام أحزاب المعارضة السورية، فإما أن تلوذ بالصمت وتنكفئ، وإما أن تعمل بسرية تحاشياً لبطش السلطة، فالذين صمتوا وتخلوا عن العمل السياسي عاشوا في الظلّ، وسوّغوا ذلك بعدم جدوى العمل السياسي السلمي في مواجهة الرصاص والمشانق والاعتقال طويل الأمد، وأما الذين اختاروا المواجهة فقد خاضوا مع النظام مواجهة قاسية ودامية غير متكافئة من حيث موازين القوى.
لقد انحسر نشاط الإخوان المسلمين بعد الثمانينيات بسبب حملات التصفية الجسدية التي قام بها النظام ضدهم، وكذلك بسبب الأعداد الهائلة من المعتقلين الإسلاميين في السجون، وبقي عدد من الأحزاب الأخرى الشيوعية والقومية يعمل على الأرض في أوضاع بالغة السرية، وهذا ما أثر في أدائها، سواء من حيث طبيعة الأشخاص المنتمين إليها، أم من حيث منجزها الحزبي السياسي.
لم تستطع أحزاب المعارضة التقليدية أن تهزم نظام الأسد، ولا حتى أن تؤثر في سلوكه، بل استطاع هذا النظام شل حركتها وتعطيل أدائها من خلال التنكيل بأعضائها تعذيباً وسجناً طويلاً، ولكنه لم يستطع القضاء عليها أو محوها، بل ولم يستطع -على الرغم من امتلاكه لوسائل البطش والدمار كلها- أن يكسر في داخلها الإرادة والوطنية والتطلع إلى الحرية، بل يمكن القول بكل تأكيد: إن المقاومة والصلابة التي أبدتها المعارضة السورية في مواجهة نظام الأسد أمرُ يبعث على الاعتزاز والفخر، ولا أقول ذلك بدافع الانحياز أو المبالغة أو إرضاء الذات، بل هي وقائع لم تعد خافية على المهتمين بهذا الشأن، وهذا ما يجعلنا نؤكد على الدوام أن المعارضة السورية دفعت ثمناً باهظاً لا يوازي على الإطلاق منجزها السياسي. ولم تستطع هذه الأحزاب -بحكم واقعهاالمأزوم – أن تساهم في تجسيد قناعة لدى الناس مغايرة للقناعة المستقرة في أذهانهم، ذلك أن السوريين لم يحصدوا قطُّ ثمرات نشاط حزبي ملموس في سورية، لا قبل الثورة، ولابعد انطلاقتها، ويعود ذلك إلى النهج الذي مارسته الأحزاب في تواصلها مع الناس والتعامل مع قضاياهم، إذ اعتمدت على الضخ الأيديولوجي وإغراق الناس بالعواطف والأمنيات والأفكار من دون ملامسة الواقع الاجتماعي وماتستدعيه حياة المواطنين من حاجات.
ولا نستغرب الإفلاس الذي مُنيت به الأيديولوجيات التقليدية بأصنافها كلها، وذلك إبان انفجار ثورات الربيع العربي الذي أثبتت كشوفاته الثقافية أن هواجس المواطن السوري وهمومه ومعاناته لم تكن بمنأى عن اهتمام السلطة الحاكمة فحسب، بل بمنأى عن الأحزاب التي كانت تُصنف في صفوف المعارضة أيضاً.
ولم تتمكن المعارضة السورية من أن تجعل من برامجها وشعاراتها السياسية برامج حياتية تستمد مضمونها من حياة الناس ونشاطهم الاجتماعي، بل ظلت في أغلب الأحيان تدفع ثمن معارضتها للسلطة من دون أن تتمكن من تقديم البدائل الأفضل.
السمات المشتركة لأحزاب المعارضة التقليدية السورية
وفي أي حال يمكن لنا أن تستنتج عدداً من السمات التي –كما أظن– اتسمت بها أحزاب المعارضة السورية جميعها (الإسلامية والشيوعية والقومية) منذ عام 1970 وحتى الوقت الحاضر، ونوجزها في ما يأتي:
1 – الانشغال بالأيديولوجيا، والسعي الحثيث إلى إيجاد مسوّغ أيديولوجي لوجود الحزب، وذلك بدلاً من الاهتمام بالبرنامج الحزبي الذي ينبغي أن يتجسّد على أرض الواقع، وهذا يعني أن العقيدة الحزبية هي مصدر شرعية الحزب وليست الوظيفة الاجتماعية التي يقتضيها الواقع الاجتماعي لحياة الناس.
2 – الاستغراق الكامل في الشأن السياسي للأمة، والاهتمام البالغ بتصدير الخطابات والبيانات التي تلبي –في الأحيان معظمها– حاجة نفسية للأنا المهزومة بالدرجة الأولى وبخاصة لدى الأحزاب القومية، وذلك أكثر من الاهتمام بحاجات الناس الاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
3 – ادّعاء تمثيل الجماهير كلها، من دون الالتفات إلى التباين الاجتماعي والفكري بين شرائح المجتمع.
4 – عدم قدرة هذه الأحزاب على إعادة إنتاج مضامينها الأيديولوجية وذلك وفقاً لتغير الأحوال، الأمر الذي جعل الأفكار الحزبية أقرب إلى أيقونات ذات وظيفة تزيينة غير قادرة على مقاربة الواقع الاجتماعي.
5 – نموّ لوثة الاستبداد في الممارسة السياسية بسبب الاعتقاد باحتكار الحقيقة، ونفي أي شرعية لوجود الآخر، (غياب آليات التفكير الديمقراطي).
6 – الضحالة الفكرية والثقافية لدى المكوّنات الحزبية معظمها، واعتماد الأحزاب السياسية على البرامج الثقافية التي تعزز قناعاتها بسلامة تعتقده فقط وصحته، الأمر الذي يؤدي إلى تكلس العقل الحزبي وتنميطه وجعله لا يرى إلا من ثقب محدّد.
7 – افتقار الأحزاب معظمها إلى رصيد نظري فكري، إذ لا تحفل أدبيات الأحزاب ببحوث ودراسات تتجاوز مدّة كتابتها، والاكتفاء بالمنتج الصحافي الاستهلاكي.
ولعلّ هذه العوامل مجتمعة، يضاف إليها ما كانت تمارسه السلطات الاستبدادية، وبخاصة نظام الأسد في امتداد أربعة عقود من الزمن، قد أدت كلها إلى حالة من التصحر السياسي، وانعدام إرث سياسي يمكن أن تؤسس عليه الأجيال القادمة.
الكيانات السياسية في فجر الثورة
لئن كان الاستبداد –بوصفه منتِجاً لثقافة الخوف- عاملاً أساسياً حال دون وجود ثقافة حزبية ناضجة في سورية؛ فإن زوال سلطة النظام من المناطق المحررة، خلال العام 2012، شهد إقبالاً واسعاً على تشكيل كيانات سياسية، ومنظمات مجتمع مدني، وبخاصة من جانب فئة الشباب، وكان من تداعيات ذلك، ظهور عدد من الفاعليات المعبرة عن هذه الكيانات (أحزاب – تيارات – تجمعات سياسية – صحف – مجلات – نشاط ثقافي – منتديات)، تحاول التعبير عن تطلعات أصحابها وتصوراتهم لمستقبل البلد والثورة، ولكن من الملاحظ -أيضاً- أن هذه الكيانات، كما ظهرت بسرعة، فإن قسماً كبيراً منها اختفى أيضاً بسرعة، ما يحيل على مسألتين مهمتين:
الأولى: إن ظهور هذه الكيانات –بأشكالها كافة- وبزخم شديد، هو تعبير طبيعي عن حرمان المواطن السوري من حقوقه المغتصبة في ظل نظام الأسد، كحقه في التعبير والمشاركة في صناعة القرار، وحقه في ممارسة السياسة، ولعلّ الرغبة في استرجاع هذه الحقوق المنهوبة، يؤكد أن المواطن السوري لديه الإدراك الكافي، والإصرار -في الوقت ذاته- على التطلّع إلى العيش في ظل دولة، تحترم وجوده، وتحفظ حقوقه وكرامته.
الثانية: غياب قسم كبير من هذه الكيانات بعد مدة قليلة من إعلان تشكيلها، يدل -ببساطة- على أنها كانت تملك مسوّغات ظهورها، ولكنها تفتقر إلى أسباب بقائها أو استمرارها، وأعني بذلك افتقارها إلى الحوامل الفكرية والاجتماعية المؤسسة لها، إنها تمتلك الرغبة والطموح، ولكنها لا تملك الإمكانات الداعمة لهما.
يمكن أن نضيف إلى ذلك، دخول الثورة المبكّر في طور السلاح، فقد أنتج حالة من العنف والدموية استطاعت أن تحول دون نضج أي نشاط سياسي أو مجتمعي آخر، إذ أصبح من يحمل البندقية هو صاحب الكلمة وليس سواه.
لكن الذي يستدعي مزيداً من التفكير والعمل في آن معاً، هو أنه -وبعد دخول الثورة السورية عامها السابع- ما زالت الساحة السورية تفتقر إلى وجود أحزاب سياسية فاعلة ومؤثرة ومنبثقة من عمق الشارع السوري، ومعبرة عن تطلعات السوريين، وتحظى بالإقبال والمساندة أو التأييد، إذ ما زال السوريون معظمهم ينظرون إلى الأحزاب بأعين الريبة والشك تارة، وبمزيد من انعدام الثقة تارة أخرى، ولعل ذلك يعود إلى أسباب عدة، أبرزها:
1 – افتقار الشارع السوري إلى ثقافة حزبية، وافتقار الوعي السوري العام إلى فهم طبيعة الدور الذي تساهم من خلاله الأحزاب السياسية في عملية التغيير.
2 – الدور الباهت والهزيل للأحزاب التقليدية في مسار الثورة السورية، وعدم قدرتها على مواكبة الثورة سياسياً.
3 – خيبة الجماهير السورية الثائرة من ثمرة أي نشاط حزبي، سواء في المستوى الاجتماعي أم السياسي.
4 – عدم قدرة الأحزاب أو الكيانات السياسية -سواء التقليدية، أم التي تشكلت بعد انطلاقة الثورة- على إنجاز أي مشروع سياسي قادر على استيعاب تطلعات السوريين، وموازٍ -في الوقت ذاته- لتضحياتهم وعطاءاتهم.
الحاجة الاجتماعية إلى الأحزاب السياسية
ما من شك في أن الحاجة إلى وجود أحزاب سياسية بات ملحّاً أكثر من أي وقت مضى، إذ إن الحزب السياسي ما زال يجسّد الإطار الأرقى والأنضج للتعبير عن الرأي، إذا كان يعمل في مناخ صحّي وسليم. ولكن من جهة أخرى، يجب تأكيد أن نجاح أي تجربة حزبية مرهون –في الوقت ذاته– بجملة من التحديات، ومدى قدرة أحزاب المستقبل على مواجهة هذه التحديات التي من أبرزها الابتعاد عن هيمنة الأيديولوجيا، بوصفها مصدراً من مصادر شرعية الحزب، والاعتماد على معطيات الحياة الاجتماعية، وما تفرزه من حاجات، وأعني بذلك أن يكون تماسك الحزب وصلابته مُستمدين من تماسك برنامجه وصلابته، ومدى استجابة هذا البرنامج لمقتضيات حياة المواطنين. لقد انقضى زخم الأيديولوجيات، ولم يعد يثير مزيداً من الاهتمام لدى المواطن، بل يمكن القول: إن ثمة أيديولوجيا إنسانية مشتركة لدى البشر معظمهم، وتتجسد في رغبة المواطن في المحافظة على حريته وكرامته وصون حقوقه، وتأمين حياة كريمة له، وشعوره أنه يحيا في ظل دولة، تحترمه وتتيح له التعبير عن رأيه، وتتيح له المساهمة في تقلّد المناصب والمشاركة السياسية. ومن جملة هذه التحديات أيضاً نهوض أي حزب جديد على حوامل فكرية ثقافية، أعني أن تتأسس برامجها السياسية على معطيات فكرية وثقافية متينة، وفي هذا السياق، يبدو من الضروري أن تكون هناك وشائج عميقة بين الأحزاب ومراكز البحوث والدراسات. وكذلك إفساح المجال لعنصر الشباب، والاستفادة من طاقاته وحيويته، وإعادة الثقة إلى جيل الشباب بجدوى العمل السياسي، وضرورة تنحّي الشخصيات التقليدية ذات المنحى الفكري المتكلّس عن التنطع لدور القيادة الدائمة. إضافة إلى ضرورة الاعتماد على النظم الإدارية السلسة والمرنة، والالتزام بنظام المأسسة، والابتعاد عن المركزية المقيتة أو الشخصنة والفردية، ولعل الأهم من ذلك كله هو أن تكون مرجعية الأحزاب هي السياق الاجتماعي لحياة المواطنين وحاجاتهم وليس أفكار الحزب وتصوراته فحسب.
mena-monitor