سورية.. إسرائيل شريكا في الحل الروسي
برهان غليون
تصريح السفير الروسي في إسرائيل، أناتولي فيكتوروف، في 30 يوليو/ تموز، مثير للاهتمام، في الوقت الذي تقود روسيا في سوتشي محادثات السوريين من أجل التسوية، وتطرح نفسها في سورية صانعة سلام. قال السفير على القناة الإسرائيلية العاشرة، مطمئنا الإسرائيليين إن أمن إسرائيل أولوية روسيا في سورية. وهذا ما لم يشكّ فيه أحد، منذ بداية الثورة السورية والتدخل الروسي فيها، سواء من خلال تعطيل مجلس الأمن وقراراته التي شاركت موسكو نفسها فيها، أو من خلال تدخلها العسكري المباشر منذ العام 2015، بعد أن أيقنت أن النظام السوري على طريق الانهيار، ومعه حشود المليشيات الإيرانية.
منذ ذلك الوقت، لم تكفّ علاقات الطرفين، الروسي والإسرائيلي، عن التحسّن على حساب جميع الأطراف الأخرى. وقد تجاوز التفاهم اليوم بين رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أي تفاهم مع أي طرفٍ من هذه الأطراف، بما فيها النظام السوري الذي من المفترض أن روسيا جاءت لدعمه بالدرجة الأولى. وتحول التنسيق بين الروس والإسرائيليين، لتجنب الصدام بين سلاحي جو البلدين في سماء سورية، إلى شراكة إقليمية وتخطيط مشترك لمستقبل سورية. في هذه المعادلة مكاسب بوتين أساسية. فهو لا يضمن، بتحالفه مع الدولة الأكثر دلالا في العالم، والمعفاة من احترام أي قانون أو التزام دوليين، التغطية السياسية الكاملة لتفرّده بتقرير مصير البلد المحتل فحسب، لكنه يكسب إلى جانبه حليفا مهما على الأرض، وفي الميدان العسكري تجاه جميع الأطراف الأخرى، بما فيها طهران التي اعتقدت وقتا أن لديها ما يكفي من النفوذ والقوة متعددة الأشكال، الناعمة والخشنة على الأرض، لمنافسة موسكو على الأسبقية في تقرير مصير سورية. هكذا يستطيع السفير الروسي، ورئيسه، من دون الشعور بأي حرج، أن يقول إن من غير الواقعي إخراج إيران من سورية كليا، فالروس بحاجة لمليشياتها قواتٍ بريةً على الأرض، لكنه لن يمنع إسرائيل من الهجوم على مواقعها وتدميرها.
أما مكاسب نتنياهو فهي لا تحدّ، فبعد أن ضمنت لنفسها إطلاق يدها تماما في فلسطين من قبل الإدارة الأميركية الجديدة بما سميت صفقة القرن، تتقدّم مع روسيا إلى موقع القوة الإقليمية التي لا يمكن تجنب رأيها ومصالحها في أي قرارٍ يخص المنطقة بأكملها. تحلم إسرائيل، من خلال الوضع الاستراتيجي الاستثنائي الذي حصلت عليه بعد تدمير سورية، ومن قبلها العراق، وانسحاب مصر، ومرض الخليج، وقبل ذلك بعد الانحسار الإجباري في نفوذ إيران، أنها تستطيع، بالتفاهم مع روسيا والتعاون معها، أن تنهي حقبة الحرب العربية الإسرائيلية الطويلة لصالحها، وتحقق جميع المشاريع الاستيطانية في فلسطين بأكملها والجولان، وتخترق أي حصاراتٍ أخرى، سياسية أو اقتصادية. التفاهم الاستراتيجي الروسي الإسرائيلي في سورية والمنطقة صفقة قرن ثانية، تضاف إلى صفقة القرن الأميركية التي حصدت تل أبيب أول ثمارها بضم القدس برعاية أميركية.
عندما يكون أمن إسرائيل أولوية روسية في سورية فهذا يعني أنه أولوية للأسد الذي يعمل تحت أوامر الروس وفي حمايتهم، ولا يستطيع أن يستمر من دونهم. لكن، بعكس ما قد يظنه بعض العرب والسوريين، أو ما يخطر في بالهم، لا ينبغي أن يعتقدوا أن الأسد مستاءٌ من هذا الأمر، أو أنه يشعر إزاءه بأي حرجٍ أو إهانة. إنه يرى فيه استكمالا للوعد الذي قطعه على نفسه بحرق سورية والمنطقة، إذا قرّر السوريون “التآمر” ضده. العمل العلني اليوم مع إسرائيل من خلال الغطاء الروسي مناسبة أخرى لمعاقبة السوريين الذين عارضوه وتجرأوا على مواجهته، ودليل إضافي على قدرته تجاوز جميع الصعاب، واستعداده الدائم لتحدي أعدائه في الداخل والخارج، خصوصا العرب، والتشفّي منهم وإذلالهم. وبالإضافة إلى ذلك، سوف يوفر عليه هذا الوضع الجديد الحاجة إلى خطابات المقاومة والممانعة الكاذبة وبهلوانيات القومية والاشتراكية والتطوير والتحديث التي كان تثقل على كاهله. وسوف يعزّز موقفه أمام المنظمات الدولية، والدول المتردّدة في إعادة تأهيله، ويحرّره من الخوف من احتمال الاضطرار إلى الرد على تقارير المنظمات الدولية، والتعرّض، في يوم ما، إلى المساءلة والمحاسبة عما ارتكبه من الجرائم التي وصفتها منظمات حقوق الإنسان الدولية جرائم ضد الإنسانية.
عندما تكون معك روسيا وإسرائيل في الشرق فأنت تملك العالم، وليس عليك أن تخشى أحدا. هذا ما أثبته مثال الأسد خلال السنوات الثماني الماضية، والذي أبقاه حاكما، بصرف النظر عن مضمون الحكم وشكله وظروفه. وهذا كل ما يطلبه.
هل يجيب هذا كله أو يقدم بعض عناصر الإجابة عن السؤال الكبير والدائم الذي لا يكفّ السوريون، على مختلف أطيافهم واعتقاداتهم، عن طرحه: ما الذي يفسّر هذا التواطؤ الشامل على ما يجري في سورية من استهتارٍ لا يقارن بالمواثيق والشرائع والقرارات الدولية، وتحدٍّ سافر لأبسط معايير الإنسانية، والتلاعب بحياة البشر والمتاجرة بأرواحهم وأعضائهم، وزجّهم في معارك وحروب إبادة جماعية، والصمت المطبق على المجازر التي كانت آخرها قبل أيام المجزرة التي راح ضحيتها 246 شهيدا بسبب رفض وجهائها وشيوخها إرسال شبابهم للقتال ضد مواطنيهم في مناطق أخرى، وما ينشرُه النظام، من دون أي تفسير أو حرج، من قوائم الموت التي تعني الآلاف من المخطوفين الذين قضوا تحت التعذيب، بتعليلٍ واحد، هو الجلطة القلبية أو العوارض الصحية، من دون تهم ولا محاكمات ولا أي أثر للضحايا، ومن دون أن يثير ذلك أي رد فعل سياسي، لا من الدول، ولا الأحزاب الديمقراطية، ولا الرأي العام، ولا حتى المنظمة الدولية؟
كان السوريون يعتقدون أن أمن إسرائيل أولوية في سياسة واشنطن المشرقية، واكتشفوا، بعد ثورتهم المغدورة، أنه أولوية أكثر في سياسة موسكو البوتينية. والآن بعد التصريح الروسي، وبجهود محور الممانعة والمقاومة في طهران وضاحية بيروت والقرداحة. صارت، بحكم الواقع، أولوية في السياسة السورية ذاتها، وربما تتحول قريبا إلى أولويةٍ في السياسات الدولية تفوق أولويات حفظ السلام العالمي، وتحقيق التنمية ومكافحة الفقر والحدّ من الجريمة والاتجار بالمخدرات والمخاطر البيئية وانتشار الأوبئة، ومختلف التهديدات القائمة والمحتملة. يشعر السوريون في محنتهم العظيمة أن بشار الأسد لم يكن وحده الكارثة، لكنه كان الأداة المنفذة لجريمةٍ خطط لها وشارك فيها، بوعي أو من دون وعي، عالمٌ كاملٌ فقد روحه، وقبل الاستسلام لمبدأ القوة المتفوقة، وتحالف الجريمة مع انعدام المسؤولية.
لم يعد الاستمرار في المقاومة، ورفض تمرير الجريمة والتسليم بها، شرطا لاستعادة سورية إلى الحياة فقط، وإنما أكثر من ذلك لإعادة أحياء الضمير العالمي المطعون في الصميم.
العربي الجديد