مكتومو قيد وأجانب الحسكة: الذكرى 56 لـ “الاحصاء الاستثنائي”
سعيد قاسم
تصادف، الجمعة، الخامس من تشرين الأول/أكتوبر، الذكرى الـ56 على “الإحصاء الاستثنائي” الذي أُجرته “حكومة الانفصال” سنة 1962 بحق الأكراد السوريين، استناداً على القانون رقم 93، والذي تمّ بموجبه تجريد عشرات آلاف الأكراد من الجنسية السورية.
وبعد استيلاء “حزب البعث” على السلطة في العام 1963، طبّق سياسات استهدفت تعريب أسماء القرى والبلدات والمدن الكردية، وحظر الثقافة الكردية من التداول، ومنع تسمية المواليد الجدد بالأسماء الكردية، بالاضافة الى تنفيذ مشروع “الحزام العربي” بناءً على القانون رقم 75 الذي صدر سنة 1964 ونص على اعتبار الحسكة محافظة حدودية. وعلى ذلك، تم منع الفلاحين الأكراد من تملّك الأراضي الزراعية، وتحولت الملكية الى “انتفاع” بموجب عقود ايجار بين وزارة الزراعة والفلاح، يدفع الأخير بموجبها بدل ايجار لقاء استفادته من أرضه الزراعية، كل سنة.
المؤتمر الثالث لحزب “البعث العربي الاشتراكي” في العام 1966 أصدر قرارات حرمت مئات المزارعين الأكراد من ملكية الاراضي، أو حتى الانتفاع بها، وقال بـ”إعادة النظر بملكية الأراضي الواقعة على الحدود السورية التركية وعلى امتداد 350 كلم وبعمق 10-15 كيلومتراً، واعتبارها ملكاً للدولة، وتطبق فيها أنظمة الاستثمار الملائمة بما يحقق أمن الدولة”. وبموجب ذلك انتزعت ملكية تلك الاراضي من أصحابها وتحولت الى مزارع للدولة. هذه الاراضي لم تعد الى أصحابها الحقيقيين، على الرغم من أنها حالياً تحت اشراف “الادارة الذاتية” التابعة لحزب “الاتحاد الديموقراطي”، بل يتم استثمارها من قبل موظفي “الادارة الذاتية”.
ومع مرور السنوات تحول تعداد 120 ألف كردي مجرد من الجنسية، بحسب احصاء 1962، إلى أكثر من الضعف، وفق ما تداولته الوثائق السياسية للأحزاب الكردية، “من دون ذكر آلية الإحصاء”، وأصبحت قضية المجردين من الجنسية إحدى أهم القضايا السياسية، وتحول النقاش فيها من الحظر الى الهمس. وبرزت مشاكل المجردين من الجنسية على مستويات متعددة، وأبرزها قضية “مكتومي القيد”، وهي الفئة التي نتجت عن زواح المواطنة السورية من رجل مجرد من الجنسية، كون الدستور السوري لا يخول المرأة منح جنسيتها لأبنائها. وعلى ذلك لم يحصل هؤلاء على أي وثائق رسمية، باستثناء شهادة تعريف من مخاتير الأحياء.
و”المجردون من الجنسية” هم المعرفون بـ”أجانب الحسكة”، وهؤلاء محرومين من جميع الحقوق المدنية؛ حق العمل في دوائر الدولة، حق السفر، حق الامتلاك…
وتم تداول القضية لأول مرة على المستوى الرسمي في العام 2005، في المؤتمر العاشر لحزب البعث، تحت بند “موضوع الإحصاء وضرورة حلّه في توصياته العامة”، كما تناولها الرئيس بشار الأسد في مناسبات متعددة، إلا أنّ الوعود بحلّ الإشكالية المتعلقة بقضية المجردين والمحرومين من الجنسية لم تجد طريقها للتطبيق، وكان مصيرها التسويف أبداً.
مع بواكير الحراك المدني السوري في آذار/مارس 2011 طرح النظام المرسوم 49، بعد 49 عاما من مرسوم العام 1962، والذي قضى بـ”منح” المسجّلين في سجلات أجانب الحسكة الجنسية العربية السورية. لكن، تم تمييز أولئك بكودات خاصة، وتم إعفاؤهم من الخدمة الإلزامية. الغبن لا يزال يلازم الكثيرين منهم، على حقوقهم المسلوبة لعقود، من دون أن تتم حتى الإشارة إلى إمكانية تعويضهم مادياً أو حتى معنوياً. كما أن بياناتهم المدنية لم تعمم على دوائر النفوس في بقية المحافظات، ولا يزال المجنس حديثاً يعاني من صعوبات كثيرة في استصدار أوراق رسمية مثل جواز السفر.
ومع مضي أكثر من سبع سنوات على صدور المرسوم 49 والبلاغ الوزاري الملحق به، لا يزال آلاف مكتومي القيد، من دون تسوية أوضاعهم، ومن دون الجنسية بعد. لذا فقد وصم العديد من المتابعين والمراقبين للشأن السوري المرسوم 49 بأنه ذو بعد سياسي، ليس متعلقا بإعادة الحقوق لفئة متضررة.
وتعتبر قضية مجردي الجنسية إحدى أكثر القضايا التي عانت من الإهمال حتى من قبل الأحزاب والقوى السياسية الكردية نفسها، وهي التي لم تقدم الى الآن إحصاءات أو دراسات توضح الظلم الذي لحق بهذه الفئة، ولم توصل أصوات هؤلاء الى المنظمات والهيئات الدولية المعنية.
مؤخراً برزت قضية المجردين من الجنسية، مع إصدار منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” تقريراً موسعاً باسم “المواطنة السورية المفقودة: كيف دمر إحصاء عام 1962 حياة الكرد السوريين وهويتهم”. وتم تقديم التقرير في 18 أيلول/سبتمبر في جلسة مجلس حقوق الانسان في دورتها الـ39 في مدينة جنيف، كحدث جانبي حضره خبراء وحقوقيون من طرف المنظمة الحقوقية السورية أوضحوا للمجتمعين الجانب الحقوقي لقضية المجردين من الجنسية.
منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” هي منظمة سورية تعنى بقضايا حقوق الإنسان السوري دون تسييسها في عملية التوثيق، وفق ما عرّف عنها مديرها بسام الأحمد.
وقال الأحمد لـ”المدن”، إن إعداد التقرير استغرق 8 أشهر، حسموا خلالها الجدل بخصوص إحصائيات المتضررين، من خلال مقارنة الارقام بسجلات الدوائر المدنية في محافظة الحسكة، كما اعتمدوا على فريق من الباحثين وثقوا شهادات نماذج مختلفة من المجردين من الجنسية.
وأشار الأحمد الى أنهم قدموا التقرير لحكومات الدول التي يعتقدون بأنها مهتمة بمسألة حقوق الانسان في سوريا، مثل الحكومتين الالمانية والسويسرية. وأضاف أنهم يأملون ان يكون التقرير وثيقة قانونية تعتمدها المنظمات المحلية والقوى المؤثرة في صياغة الدستور السوري الجديد لحل قضية المجردين ضمن مواطنة حقيقية تضمن حقوقهم وحقوق السوريين جميعا.
ويخلص التقرير إلى أنه: “حتى مطلع العام 2011 كان عدد فئة أجانب الحسكة/أصحاب البطاقة الحمراء والمسجلين ضمن قيود المديرية بلغ 346242 فرداً، ومع نهاية شهر أيار/مايو 2018 بلغ عدد الحاصلين على الجنسية السّورية من الفئة نفسها 326489 فرداً، فيما لا يزال هنالك 19753 فرداً من فئة أجانب الحسكة غير حاصلين على الجنسية السورية بعد”.
وعن فئة المكتومين، نفى الأحمد التصريحات التي تقول بعدم معرفة الحكومة السوريّة عدد فئة مكتومي القيد، إذ أشار إلى أنّ المديرية في الحسكة كانت تعتمد على سجلات “المخاتير” خلال العقود السابقة والتي كانت تمنح وثائق لفئة “مكتومي القيد” مثل “شهادة التعريف” على سبيل المثال. وقد وصل عدد فئة مكتومي القيد حتى العام 2011 لأكثر من 171300 فرداً، حصل منهم حوالي 50400 فرد على الجنسية السّورية بعد تصحيح وضعهم القانوني من فئة المكتومين إلى فئة أجانب الحسكة، وبالتالي إلى فئة المواطنين السوريين. ولكن هنالك حوالي 41000 حالة لم تستطع تصحيح وضعها القانوني بسبب مشاكل صادفتها المديرية أثناء إدخال ملفاتهم إلى قيود فئة أجانب الحسكة. ومازال هنالك أقل من 5000 شخص لم يحضروا أصلاً إلى دوائر النفوس من أجل تصحيح وضعهم القانوني.
وبالمحصلة، فقد بلغ مجموع عدد المجردين/المحرومين من الجنسية، منذ عام 1962 إلى العام 2011 أكثر من 517 ألفاً من الأكراد السوريين. وقد تمّ تمييز الهويات الشخصية التي حصل عليها أجانب الحسكة، بكودات خاصّة، إذ تمّ وضع الرقم 8 بعد رقم الخانة/القيد: لتصبح كالتالي: ××/8.
قضية المجردين من الجنسية هي أحد وجوه المواطنة السورية المفقودة، لم يعاني منها الأكراد فقط، ولكنهم ذاقوا وجهها المؤلم، خاصة أن الكثير من مكتومي القيد، ولدوا وماتوا، من دون أن يحصلوا على شهادة ميلاد ولا شهادة وفاة.
المدن