فوضى واشنطن أم فوضى ترمب؟
نديم قطيش
يندر أن يعثر المتابع على تناقضات بهذا الحجم، وبهذه السرعة في صياغة واشنطن لسياساتها ومواقفها من قضايا استراتيجية شائكة، كما كان الحال الأسبوع الفائت. فاجأ الرئيس دونالد ترمب متابعي حسابه على «تويتر» بموقف يعلن فيه عن الانسحاب «السريع والكامل» للقوات الأميركية المتمركزة في شمال شرقي سوريا، التي لا يزيد تعدادها على 2000 جندي. القرار الكبير هذا، جاء ترمبياً بامتياز، بعصبيته وسرعته، وقدرته على إذهال حتى أقرب المستشارين والموظفين في البيت الأبيض.
ما لبث ترمب وبعد أيام قليلة أن خرج بموقف آخر وصف فيه الانسحاب الأميركي المزمع من سوريا بـ«البطيء والمنسق».
فهل هو انسحاب سريع أم انسحاب بطيء؟ وهل هو قرار أحادي، أكدت أحاديته المواقف الأوروبية المتفاجئة من الخطوة، أم قرار منسق، وهنا يصبح السؤال، مع من ومتى ووفق أي أولويات سياسية؟
بداية تعلمك واشنطن، أن كل السياسات هي سياسات محلية في نهاية الأمر، وبالتالي، من غير المستبعد أن يكون المقصود من توقيت ضجيج السياسة الخارجية، تشتيت الانتباه عن تطورات دراماتيكية منتظرة في واشنطن في عدد لا بأس به من أصل 17 تحقيقاً مفتوحاً بحق الرئيس أو بحق مساعديه، تمتد من تحقيقات في قضايا فساد وإثراء غير مشروع إلى أخرى حول العلاقة مع روسيا وتورط موسكو في التأثير في نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. وهنا تصير السياسة الخارجية في ملفات رئيسية أسيرة الهاجس الشعبوي الداخلي ولعبة «الرايتنغ» الأميركية من دون النظر إلى التبعات الطويلة المدى.
إلى ذلك، يكشف القرار، وتكشف الفوارق العميقة بين جزئيه الأول والثاني، عن أن مقاربة ترمب للشرق الأوسط شديدة الرخاوة، ويعوزها الحد الأدنى من المنطق الاستراتيجي المتماسك.
قبل الإعلان الترمبي بأقل من أسبوع، كان جيمس جيفري، المبعوث الأميركي الخاص إلى سوريا، يشرح لنخبة من متابعي الملف السوري في العاصمة الأميركية، وفي ندوة استضافها معهد «مجلس الأطلسي» المرموق، أبعاد السياسة الأميركية في سوريا والتزام واشنطن بالعملية السياسية والدستورية ودعم مساراتها حتى ولو عبر القبول ببقاء مؤقت وانتقالي لبشار الأسد، من دون أي إيحاء بأن واشنطن بصدد التخلي عن وجودها العسكري الرادع للأسد وللميليشيات الإيرانية عن محاولات خطف العملية السياسية وتحويلها عن أهدافها.
في هذا السياق، وقبل أسبوع من قرار ترمب، أكد بريت ماكغورك المبعوث الرئاسي الخاص إلى التحالف الدولي لمكافحة «داعش» (استقال بعد القرار)، أن القوات الأميركية ستبقى على الأرض بعد التدمير المادي الذي لحق بمشروع «الخلافة» المزعومة.
قبل ذلك كان مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، يقود عملية تحول دقيقة في أهداف التدخل العسكري الأميركي في سوريا، وتغيير إطار المهمة من القضاء على «داعش»، إلى مواجهة إيران، رابطاً بين الانسحاب الأميركي من سوريا وبين التأكد من عدم بقاء أي من ميليشيات إيران في هذا البلد.
هذا غيض من فيض المواقف الأميركية التي تكشف حجم الارتجال، حتى بالنسبة للنخبة العسكرية في «البنتاغون» التي، بخلاف رأي بولتون، تؤيد خفضاً منظماً وحذراً للوجود الأميركي في سوريا.
يقتضي الإنصاف، الإقرار بأن موقف ترمب منسجم مع قناعات الرئيس التي عبر عنها منذ الربيع الفائت، وأساسها رغبته في الانسحاب من سوريا، وإن كانت هذه القناعات تنم عن شعبوية مفرطة، وعن واقعية سياسية خارجية تلامس عدم الإدراك الاستراتيجي التام بتبعات مواقف مماثلة.
لكن العجب العجاب، أنها تتقاطع مع سردية واقعية يقدمها ليبراليون وجدوا أنفسهم في لحظة التقاء غريبة مع ترمب، لا يقدرون هم أنفسهم على فهمها. تفيد هذه السردية الواقعية الليبرالية بأن الولايات المتحدة ستواصل الاحتفاظ بقوات في العراق قادرة على شن غارات على سوريا، وأن أكثر من 40.000 جندي وبحار وطيار أميركي موجودون في المنطقة أو حولها، وبوسعهم التحرك لو لزم الأمر، مضافاً إلى ذلك التزام واشنطن بالمساعدات العسكرية ومبيعات الأسلحة الهائلة لحلفائها في المنطقة. وتركز هذه السردية على عدم وجود أي مصلحة للناخب الأميركي فيما يحصل في سوريا على مستوى السياسة الداخلية وهوية الرابح في الصراع الدائر، من دون أي تقدير حقيقي لتبعات أن تنجح روسيا وإيران في إعادة الحياة لنظام بشار الأسد وإطالة أمد المرحلة الانتقالية. هي نفسها الواقعية العمياء التي لم ترَ في هيمنة ميليشيات «الحرس الثوري» على موانئ اليمن أي خطر على الناخب الأميركي فيما لو قررت إيران ضرب مسارات التجارة الدولية في هذه المنطقة الاستراتيجية لسلامة الاقتصاد العالمي. في المقابل ركزت جل جهدها السجالي والدعائي على نقد الحرب في اليمن، من دون التوقف عند أي سياق من سياقات الحرب وخلفياتها وأسبابها.
وبالتالي، ما هو أسوأ من تسرع ترمب وفقدانه لمرتكزات صلبة تسند قراراته في السياسة الخارجية، وما ينتج عنها من فوضى مثل فوضى الموقف من سوريا، هو عموم الفوضى في النقاش الاستراتيجي في العاصمة الأميركية، والمناخات السامة التي تهيمن على أي محادثة في هذه المدينة اليوم.
aawsat
جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media