من الصحافة العالمية

أردوغان البعثي

حازم الامين

لم تجدِ رسالة أحمد داوود أوغلو إلى صديقه السابق رجب طيب أردوغان، والتي انتقد فيها أداء حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البلدية الأخيرة، وقبلها في موضوعي الحريات والفساد. جواب أردوغان كان إلغاء نتائج الانتخابات البلدية التي خسرها في مدينة إسطنبول، العاصمة التجارية والتاريخية لتركيا.

لا شك أن إلغاء نتائج الانتخابات هو مؤشر ثانٍ بعد المؤشر الأول المتمثل في خسارة الانتخابات، على مباشرة ظاهرة أردوغان مسارا انحداريا. أوغلو نفسه ما كان ليوجه انتقادات لزعيم حزبه لولا التقاطه هذا المؤشر. وأردوغان من جهته ما كان ليلغي نتائج انتخابات كان سبق أن طلب إعادة فرز الأصوات فيها وتحقق مرة ثانية من الخسارة، لولا يقينه من أن الخسارة وقعت وأن مواجهتها تقتضي المجاهرة برفض الحقيقة، وأن الوقت حان لكشف النوايا.

الرجل خسر أنقرة، العاصمة السياسية لتركيا، لكنها أيضا العمق الأتاتوركي للدولة، وهذا في وعيه أقل أهمية من العمق العثماني الذي تشكله إسطنبول. ثم أن الأخيرة هي من دفع به من رئاسة بلديتها إلى رئاسة الحكومة ثم إلى رئاسة الجمهورية.

الصفعة كانت قوية، وهو فقد على إثرها توازنه. ألغى الانتخابات! هذه خطوة أدت وستؤدي إلى فقدانه ما تبقى من مصداقية حتى في أوساط في حزبه. وهي أيضا لن توقف الانحدار حتى لو جاءت نتائج إعادة الانتخابات في مصلحته.

أردوغان صار جزءا من “معشر” رؤساء ـ هم أصدقاؤه اليوم ـ لا يكترثون لارتدادات خطوة من نوع إلغاء انتخابات، أو تعديل دستور، أو خنق حريات. الشبه الكبير بين سيرتي أردوغان وصديقه فلاديمير بوتين يقول الكثير على هذا الصعيد. تقلب الرجلان بين رئاستي الجمهورية والحكومة، وجعلا من دستوري بلدهما لعبة يطوعانها كما يرغبان. والشبيه الثالث لهما هو شريكهم في لعبة المراوغة الدولية في سوريا، وهو النظام الإيراني الذي تولى بدوره ومنذ وقت ليس ببعيد إطاحة نتائج الانتخابات التي فاز فيها مير حسين موسوي.

وأردوغان يؤلف في مساره الانحداري مشهدا غير مألوف في تركيا. الأخيرة لم تكن يوما جنة للحريات، لكن قمع الحريات مع ما رافقه من انقلابات عسكرية، كان جزءا من أداء الدولة العميقة فيها، وليس موظفا في مشروع زعيم فرد. أما اليوم فالطيب أطاح بكل خصومه في الجيش وفي الحزب وفي الدولة، أو هكذا يبدو حتى الآن. وهو إذ شكل الصعود الاقتصادي ركيزة سلطته في مرحلة تصدره الأولى، فقد اليوم هذه الميزة، ذاك أن الاقتصاد التركي في حال تراجع كبير، وقيمة العملة تواصل انحدارها، وبهذا المعنى لم يعد أمام الطيب لوقف الانهيار سوى القبضة البوتينية.

ثم أن العدالة والتنمية أيضا تصدع من الداخل على ما كشف نداء أحمد داوود أوغلو، ويبدو أن أردوغان استعاض عن الحزب بزمرة مسترزقين جددا، وبأفراد من عائلته، وبتحالف مع قوميين قال عنهم أوغلو إنهم كانوا المسؤولين عن خسارة الانتخابات المحلية الأخيرة.

الاستعاضة عن الحزب بالعائلة، وعن معالجة الأزمة الاقتصادية بخطاب المؤامرة الخارجية، وعن الحريات بـ”استقرار” مضبوط بآلة القمع، بالإضافة إلى عمليات التطهير الواسعة في الجيش، تضعنا أمام قائد بعثي، مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق الكبرى بين دول البعث وبين تركيا. من الصعب على المرء أن يقاوم ميله لإجراء هذه المقارنة في ظل الشبه الكبير بين المسارات.

إلغاء نتائج انتخابات إسطنبول خطوة كبيرة باشرها أردوغان في سياق مقاومة المسار الانحداري لزعامته. فهو سبق أن طلب إعادة الفرز، وتحقق المراقبون والقضاة بأنفسهم من خسارته. لكنه أصر على المضي برفض نتائج الانتخابات على رغم الفضيحة التي سيحدثها إلغاؤها.

على المرء أن يتوقع مشهدا تركيا مختلفا، كان بدأ أصلا في أعقاب المحاولة الانقلابية وما أعقبها من خنق واسع للحريات. ربما نشهد سجن أوغلو مثلا، وصفقة مع بوتين تقضي بمظلة دولية لـ”رئيس مارق”. إنه المسار المنطقي لما باشره أردوغان. لكن ثمة حقائق موازية تعترض هذا المسار، وتتمثل بأنه من الصعب على رجل أن يهضم بمفرده تركيا وأن يحيلها أرضا لنموذج بعثي.

الحرة

جميع المقالات المنشورة تُعبر عن رأي كتابها ولاتعبر بالضرورة عن رأي Yekiti Media

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى