أزمة الحركة السياسية الكردية السورية
عبد الباسط سيدا
تعاني الحركة السياسية الكردية السورية، شأنها في ذلك شأن الحركة السياسية العربية، من حالة ضعف بنيوية تتمثل في مظاهر عدة، أهمّها ترهّل القيادة، وعدم قدرتها على اتخاذ القرارات المناسبة في الأوقات المناسبة، والعجز عن التفاعل مع الحاضنة الاجتماعية، والانكفاء على الذات، والانشغال بالحسابات الداخلية الشللية، والإخفاق في عملية إدارة الخلافات البينية على قاعدة المحافظة على الوحدة مع الإقرار بحق التباين، والاحتكام إلى القواعد الديمقراطية التي تضبط عملية الفصل بين حق التعبير عن الرأي وممارسة النقد، وضرورة الالتزام بالقرارات العامة التي وافقت عليها غالبية أعضاء الحزب، وإلا فسيفقد الحزب معنى وجوده أصلًا.
مناسبة هذا الكلام الانشقاق الذي تعرض له حزب يكيتي، بكل أسف، هذا الانشقاق الذي سيأخذ الكثير من الوقت والجهد من الطرفين للدفاع عن وجهات النظر، وتوضيح الأسباب التي أدت إلى ما حصل. هذا فضلًا عن التصارع حول الشرعية، وربما الاسم، والإنجازات، وأمور كثيرة أخرى تبدد الطاقات، وتحرق أعصاب الجيل الشاب عادة، وتؤدي بقسم لا يستهان به من أعضاء الحزب ومؤيديه وجماهير في مثل هذه الحالات إلى الإحباط، والابتعاد من العمل السياسي.
موضوع الانشقاقات في الساحة الكردية ليس بالأمر الجديد، فقد واكب تقريبًا مسيرة العمل الحزبي منذ أيامه الأولى. واستمر لاحقًا، ليتحوّل إلى ما يشبه حالة التشظي التي عانت منها غالبية الأحزاب التي تعود بجذورها إلى التنظيم الأم الذي تاسس في عام 1957.
أما أسباب الانشقاقات فهي عديدة وأبرزها: الصراعات الشخصية، وعدم القدرة على العمل المؤسساتي المنظّم، وغياب النضج الكافي الذي يمكّن عادة من استيعاب المواقف المختلفة، وتجاوز الحساسيات الفرعية من أجل المحافظة على وحدة الموقف، مع الإقرار بهامشٍ لتباين وجهات النظر والمواقف. ولكن إلى جانب هذه العوامل، كانت هناك باستمرار عوامل خارجية، منها ما كانت بفعل الأجهزة الأمنية، ومنها ما كانت نتيجة الاصطفافات الكردستانية، والاعتماد على هذا المحور الكردستاني أو ذاك، بهدف الاستقواء، وكسب الشرعية، والحصول على مقوّمات الاستمرارية.
ولكن الجديد بالنسبة إلى حزب يكيتي هو أنه قد تشكّل نتيجة جهود جملة أطراف كانت قد انشقت من أحزابها، أو كانت نتيجة انقسام الأحزاب على ذاتها، وكان الهدف المعلن هو تجاوز واقع الانشقاقات، وتأكيد اهمية النشاطات الجماهيرية الميدانية، وتجاوز عقلية المماحكات والشعارات النظرية. والقطع مع ذهنية الالتزام بالهامش المسموح به من جانب السلطة.
وانسجامًا مع هذا التوجه، توافقت المكوّنات السياسية للحزب المعني: (يكيتي سوريا) وهو الحزب الذي تمكّن بالفعل من القيام بنشاطات متميزة، مثّلت في حينها تحولًا نوعيًا في العمل السياسي الكردي، وذلك قياسًا إلى الأساليب القديمة التي كانت تعتمدها الأحزاب الأخرى التي كانت تحرص على عدم إثارة السلطة من خلال الالتزام بخطوطها الحمراء. والاكتفاء بطرح قائمة المطالب من دون أي رؤية نقدية لواقع السلطة، أو الدعوة إلى التغيير الديمقراطي على مستوى البلاد.
لقد تمكّن حزب يكيتي من تنظيم العديد من النشاطات المطلبية في دمشق العاصمة تحديدًا، واستطاع بفعل ذلك مد جسور التواصل مع العديد من المنظمات والأحزاب والشخصيات السورية، الأمر الذي ساهم في إخراج القضية الكردية من واقعها المحلي، لتطرح بوصفها قضية وطنية عامة.
ونتيجة لذلك، تعرض كوادر هذا الحزب للاعتقالات والملاحقة، والحرمان من الوظائف. إلا أن نشاطهم كانت يثير اهتمام أوساط واسعة ضمن المجتمع الكردي والسوري العام، وهذا ما مكّن الحزب المعني هنا من الحصول على دعم جماهيري من خارج دائرة منتسبيه من الأعضاء، وهو الأمر الذي اعتبر نقلة لافتة في العمل الحزب الكردي السوري.
وما كان يميز هذا الحزب عن غيره من الأحزاب الكردية الرئيسة، أنه كان يركز على الواقع الكردي السوري أولًا، ويتمتع بقسط من الاستقلالية في اتخاذ القرارت، وأنه لم يكن محسوبًا على محور معين من المحاور الكردستانية المعروفة، مع الحرص على العلاقات الإيجابية معها. وعلى الرغم من البدايات المشجعة، عادت أسباب الخلافات لتفعل فعلها من جديد، ومارست الولاءات الخارجية دورها، وانقسم هذا الحزب على ذاته عام 1998، وتمثّلت الحصيلة في حزبين هما: حزب الوحدة الديمقراطي الكردي في سورية، وحزب يكيتي الكردي في سورية الذي غيّر اسمه لاحقًا ليصبح حزب يكيتي الكردستاني في سورية.
ومع بداية الثورة السورية، كان لحزب يكيتي حضور واضح في المناطق الكردية، وقد اكتسب كوادره وأعضاؤه سمعة جيدة في الوسط الكردي، وكانت لهم مواقف قوية في مواجهة المحاولات التي كان يقوم بها حزب الاتحاد الديمقراطي (ب. ي. د) الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، من أجل الهيمنة على الشارع الكردي، والتحكّم فيه عبر إزاحة الأحزب الأخرى. هذا في حين أن حزب الوحدة، لا سيما في منطقة عفرين، كان في علاقة تفاهم مع (ب. ي. د).
اليوم يتعرّض حزب يكيتي للانقسام، في وقت كانت الحركة الكردية تحتاج إلى المزيد من التماسك وتوحيد المواقف، والتوافق على مشروع مشترك، يمثل وجهة النظر الكردية حول الحل المقترح للقضية الكردية السورية ضمن إطار وحدة البلد. وما يستنتج من المعطيات والتصريحات المتعارضة هو أن العوامل ذاتها قد فعلت فعلها هذه المرة أيضًا، وأحدثت الانقسام -بكل أسف- ضمن صفوف هذا الحزب. فهناك العوامل الشخصية، وعدم القدرة على احتواء الخلافات، إلى جانب تدخلات وتشجيع (ب. ي. د) وربما أوساط معينة ضمن حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، وذلك لإضعاف المجلس الوطني الكردي الذي يقوم بصورة أساسية على ركنيه: حزب يكيتي والحزب الديمقراطي الكردستاني.
أزمة حزب يكيتي لم تكن الأولى، كما أسلفنا، ولن تكون الأخيرة، في حال عدم معالجة الأسباب، وفي ظل غياب تحوّل نوعي على صعيد العمل الحزب الكردي. تحوّل يفسح المجال أمام الكوادر الشابة المؤهلة، ويمدّ الجسور مع منظمات المجتمع المدني، والشخصيات والنخب الكردية الوطنية، ويضع حدًا لنهج اختزال كل النشاطات الثقافية والفنية والرياضية وغيرها في العمل الحزب.
كما أن الاستقواء بالجماهير الكردية السورية، عبر تجسيد أهدافها وتطلعاتها ووطموحاتها، والدفاع عنها، وتعرية كل من يستغل عدالة القضية الكردية لصالح حسابات حزبية، أو أجندات إقليمية لا تتقاطع مع المصالح الكردية والسورية بصورة عامة، كل ذلك يُعد من المقدمات الأساسية لتجاوز حالة قابلية الانشقاقات المزمنة ضمن الحركة السياسية الكردية السورية.
فأن يعلن حزب الاتحاد الديمقراطي -مثلًا- عن مقتل أحد عشر ألفًا من الشباب الكردي، غالبيتهم العظمى من الكرد السوريين، ويتسبب -بإجراءاته التعسفية ومماراساته العبثية- في تهجير نحو مليون كردي من مختلف المناطق الكردية، ويقطع الطريق على الأحزاب الكردية السورية والمجتمع المدني لممارسة أي دور يتجاوز الخطوط الحمراء التي يضعها (ب. ي. د) بنفسه ولنفسه، كل هذه الخطوات وغيرها لا تخدم قطعًا المصلحة الكردية السورية، وتُضعف الثقة بقدرة الأحزاب الكردية السورية على مواجهة التحديات، وتشكك في صدقيتها، وفي مشروعية وجودها، وتصادر إمكانية قيامها بأي دور فاعل على الصعيد السوري الوطني.
جيرون
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا