عن أسباب اضطراب السياسة الأميركية في سوريا
أكرم البني
ما إن أعلن الرئيس الأميركي قرار سحب عناصره العسكرية من شمال شرقي سوريا، الذي بدا كأنه ضوء أخضر لقوات أنقرة كي تتوغل هناك، حتى هدد بنفسه، بعد يوم واحد فقط، بسحق اقتصاد تركيا وتدميره إذا تجاوزت حدودها.
وحين أكد دونالد ترمب أنه لن يتخلى بأي شكل عن الأكراد الذين عدّهم أشخاصاً مميزين ومقاتلين رائعين، بدا إعلانه الانسحاب من سوريا، فور دحر تنظيم «داعش»، كأنه طعنة لهم في الظهر، تاركاً قواتهم مكشوفة، أمام أشباه «داعش» والطامع التركي، لمهاجمتهم والاستفراد بهم.
وقبلها في صيف عام 2017 لم يمضِ وقت طويل على صراخ واشنطن وتهديدها النظام السوري بالويل والثبور وعظائم الأمور إن استمر في تصعيده العسكري ضد قوات المعارضة في درعا وأريافها، حتى أبلغت السفارة الأميركية في عمان، الجماعات المسلحة في جنوب سوريا بأنه لم يعد بوسعهم الاعتماد على الحماية الأميركية؛ الأمر الذي مكّن قوات النظام مدعومة بالطيران الروسي، من السيطرة بسهولة على تلك المناطق.
هي كثيرة الأمثلة التي تؤكد اضطراب السياسة الأميركية تجاه الوضع السوري، وإذ يتفق الجميع على أنها تحمل كثيراً من التناقض والغموض والقليل من الانسجام والوضوح، فإنهم يختلفون حول الأسباب والدوافع التي تقف وراء ذلك…
ثمة من يرجع السبب إلى تنوع مراكز صنع القرار في واشنطن؛ بين الرئيس، والمؤسسات الرسمية، وبينهما وبين المؤسسات غير الرسمية، كمنظمات المجتمع المدني وجماعات الضغط، مما انعكس في غياب التناغم في المواقف وظهور تباينات كبيرة، حدَت بالرئيس الأميركي، غير مرة، للتراجع، جزئياً أو كلياً، عن بعض القرارات التي اتخذها حين اعترضتها انتقادات واسعة، وكلنا يذكر تجميد قرار سحب قواته من سوريا، الذي أعلنه في مطلع العام الحالي، استجابة لتحفظات عدد من قادة الكونغرس وتحذيرهم من أن هذه الخطوة لن يستفيد منها سوى إيران ونظام دمشق وتنظيم «داعش»، ليتم الالتفاف على الحرج وتسوية التناقض، عبر التأكيد على ضرورة الانسحاب بوصفه «هدفاً»، لكن دون تحديد جدول زمني له ما دام هناك متطرفون تجب محاربتهم في سوريا!
وما يعمق السبب السابق برأي أصحابه، هو الطبيعة الشخصية للرئيس ترمب وميله لتغليب الروح الفردية في مواجهة القيم المؤسسية الأميركية الراسخة، ثم اندفاعاته ومواقفه المفاجئة، التي بدت نكايةً وتشفياً في سلفه أوباما، والمثال؛ قراره، من باب رفع العتب، قصف قاعدة جوية للنظام السوري إثر معاودة الأخير استخدام السلاح الكيماوي، متقصداً إظهار ضعف أوباما الذي هدد ولم ينفذ، أمام جرأته واستعداده لاستخدام الردع العسكري.
هناك من يجد السبب في اختلاف ترتيب الأولويات لدى الإدارة الأميركية، وتنامي الاهتمام بالوضع الداخلي ومشكلاته الاقتصادية والاجتماعية؛ مما يتطلب لجم السياسة الخارجية والحد من فاعليتها، وفق حسابات تتعلق برأي عام ذاق مرارة الثمار في العراق وأفغانستان، وبات غير معني بأحداث خارجية لا تمسّه مباشرة. ولعل ما زاد من أهمية هذا الخيار، هو نجاح الالتفات إلى السياسة الداخلية في تجاوز الصعوبات الاقتصادية وتحقيق نسبة نمو تجاوزت 3 في المائة وخفض معدل البطالة إلى 305 في المائة مسجلاً مستوى غير مسبوق خلال 50 سنة! والقصد أن تجنب دور عالمي نشط، والنزعة إلى الانكماش والانزواء لدى أكثرية الشعب الأميركي، سيحاصران بلا شك سياسة البيت الأبيض، ويشكلان ضغطاً مستمراً عليه كي يتجنب أي مغامرة أو منزلق، فأميركا انتظرت 3 سنوات، كما قال ترمب، وحان الوقت لكي تخرج من حروب هزلية لا تنتهي! ولعل ما يزيد هذا الحصار حصاراً، الضغط الذي يشكله اقتراب موسم الانتخابات الأميركية وطموح ترمب لولاية ثانية وحرصه على نيل رضا قطاعات أوسع من الشعب الأميركي.
بينما يذهب آخرون إلى وضع السبب في زاوية تحسب واشنطن من خصوصية وتعقيدات الوضع السوري وارتباطاته الإقليمية والعالمية، وتالياً من خطر دفع الأمور إلى حدها الأقصى والتورط في صراع مزمن قد تتعدد أطرافه ويطول زمنه، ولا يخفى على أحد هنا تهديد طهران الصريح باستعدادها وحلفائها للانخراط في حرب مفتوحة للحفاظ على نفوذها الإقليمي، خصوصاً في سوريا، ليصح القول إن القيادة في واشنطن مجبرة على قراءة المسألة السورية من زاوية النتائج والجدوى والتكلفة، وما يترتب على ذلك من خسائر يصعب تعويضها.
في حين ثمة من يعتقد أن السبب هو العقدة الأميركية المتمثلة في الإرهاب الإسلاموي، فهي التي استوجبت بناء التحالف الدولي والحضور العسكري الأميركي في سوريا، كما أنها مهدت، بعد دحر تنظيم «داعش»، لقرار الانسحاب، وهي العقدة ذاتها التي ربما تستجرّ مواقف جديدة، في حال ثبت عمق التواطؤ بين حكومة إردوغان والجماعات الإسلاموية المتطرفة، أو في حال الاستهتار في التعاطي مع فلول «داعش»، وتقدم خطر هروب مقاتليه المعتقلين لدى القوات الكردية، ويقدر عددهم بنحو 10 آلاف؛ بينهم نحو ألفي أجنبي.
أخيراً؛ لا يغفل البعض دور الحسابات والمصالح الإسرائيلية في هذا الاضطراب، من حيث احتمال تعارض بعض المواقف الأميركية المعلنة مع حرص تل أبيب على تفوقها وأمنها الاستراتيجي، والمغزى أن دولة إسرائيل تملك قوة وتأثيراً، يجب عدم إغفالهما، على مواقف الغرب والسياسة الأميركية، وتحديداً تجاه بلد جار لها وتحتل جزءاً من أرضه، مما يعني؛ مثلاً، أنه لا يمكن القفز غربياً على رغبة إسرائيلية خفية لا تحبذ وصول سلطة جديدة إلى الحكم في سوريا بدلاً من سلطة خبرتها جيداً ووفّت بوعدها طيلة عقود بإبقاء جبهة الجولان مستقرة.
صحيح أنه ما لم تتخذ الولايات المتحدة موقفاً جديداً وحاسماً من الحدث السوري، بصفتها الطرف الأقوى عالمياً والأقدر على تقرير مصير كثير من الصراعات الوطنية والأزمات الإقليمية، فلن يحصل أي تحول نوعي، وستبقى البلاد عرضة للتنازعات الإقليمية والتجاذبات الدولية، وصحيح أن السياسة الأميركية لا تحكمها الرغبات والأمنيات؛ بل تستند للمصالح والمطامع، ولحسابات موازين القوى ومواقف حلفائها، لكن الصحيح أيضاً أن ترمب وغيره من القادة الأميركيين لا يهمهم إن حفلت سياستهم بالاضطراب والتناقض؛ ما دامت لا تكبدهم أي عناء أو تكلفة، حتى لو دفعت، وكالعادة، شعوب المنطقة أثماناً وتضحياتٍ باهظةً لقاء ذلك.
الشرق الأوسط
جميع المقالات المنشورة تعبر عن وجهة نظر كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا