القضية الكردية السورية: تألق خاطف
موفق نيربية
لطالما احتاجت العلاقات العربية – الكردية في سوريا إلى نوع من التعاقد يحفظ للطرفين الحدّ المشترك من حقوقهما. وكانت المعادلة دائماً تفترض قبول واعتراف العرب المبدئي بالمطالب والطموحات الكردية من جهة، واندماج الكرد في الوطنية السورية ونضال السوريين الشامل ضد الطغيان والاستبداد والتخلف، من جهة أخرى. هذه معادلة بسيطة وواضحة، اختار الطرفان إخفاء الغلوّ وراءها، أو دفعها قسراً وراء مظاهر ذلك الغلوّ والتطرف.
توصل الطرفان، من خلال طرفين اعتباريين نسبياً – يومها- هما الائتلاف الوطني والمجلس الوطني الكردي في أغسطس/آب 2013، إلى وثيقة رسمية تتضمن ما أمكن تضمينه من المعادلة المذكورة، ووافق الائتلاف بأغلبية كبيرة على الاتفاق، مع إرفاقه بقرار يتضمن ضرورة وضع هذا الاتفاق، وما ورد فيه أمام أي مجلس نيابي منتخب بشكلٍ ديمقراطي. ومع تسجيل المجلس الوطني الكردي لتحفظه أيضاً على بندٍ يتضمن اعتماد نظام اللامركزية الإدارية، ووضع رؤيته البديلة حول أن أفضل صيغة للدولة السورية هي صيغة الدولة الاتحادية.
من أجل تحقيق المعادلة المذكورة، نَصَّ البند الأول في الاتفاق على التزام الائتلاف بـ»الاعتراف الدستوري بهوية الشعب الكردي القومية، واعتبار القضية الكردية جزءا أساسيا من القضية الوطنية والديمقراطية العامة في البلاد، والاعتراف بالحقوق القومية للشعب الكردي ضمن إطار وحدة سوريا أرضا وشعبا». وورد في البند الخامس أن «سوريا دولة متعددة القوميات والثقافات والأديان، ويحترم دستورها المعاهدات والمواثيق الدولية». وفي البند الحادي عشر أنه كما تبنت الثورة السورية علمَ الاستقلال، فإننا أيضاً «نتبنى اسم الدولة في عهد الاستقلال». ومعلوم أن اسم الدولة آنذاك كان «الجمهورية السورية» من دون صفة «العربية» في الوسط. في المقابل ذلك كان الالتزام بالثورة وأهدافها وبالعمل المشترك في غمارها، ورد على أنه من حيثيات الاتفاق والعديد من تفاصيله. بقيت مضامين الاتفاق في معظمها حبراً على ورق، وحلّت محلها الخلافات الحادة أمام أي مفترق، أو حدث يُحيي جذور الاختلاف. في ما بعد، تدهورت الأوضاع الخاصة بالكيانين السياسيين المؤتلفين، بحيث لم يبق من الائتلاف إلا ظلاله وأطلاله، ولم يبق من المجلس الكردي إلا القليل، بعد تهميشه على الأرض من قبل الاتحاد الديمقراطي وعسكره، وكذلك وقوعه في إسار عنوان سكنه الجديد في اسطنبول، الذي جاءه مع انضمامه للائتلاف.
وقد سارت القضية الكردية نفسها في مسارٍ موازٍ آخر، تطورت فيه إمكانيات حزب الاتحاد الديمقراطي PYD تنظيمياً وعسكرياً، وهو الذي نشأ كتجسيدٍ سوري لأيديولوجيا حزب العمال الكردستاني التركي PKK، بفاعلية عملية واضحة لأفراد عملوا فيه وكانوا من كوادره العسكرية. اعتمد PYD على تقاطع مصالحه مع مصالح النظام في سيطرته على الأرض، خصوصاً عند اضطرار الأخير لسحب قواه الضاربة من المنطقة، وتوجيهها نحو مناطق الصدام مع الشعب والثورة السورية. كما اغتنم PYD بنجاحٍ تلك الفرصة الكبرى التي سنحت له حين بحث الأمريكان عن حليف على الأرض لم تستطع المعارضة الأخرى توفيره أو لم يُسمح لها بذلك. فكان أن تمدد وبنى دويلة، واكتسب تقدير قوى مهمة، عدوة له وصديقة، وظهر ممثلاً قوياً لكرد سوريا، فرض نفسه من دون قواهم السياسية التقليدية، ومن دون علاقة حقيقية مع المعارضة السورية عموماً، أو تقريباً.
بعد تشتت تلك الفورة الممتازة في شهور الثورة الأولى 2011، وتهافت القوى القديمة، استطاع حزب العمال الديمقراطي، بذاته، وبإدارته الذاتية وتحالفاته اللاحقة مثل مجلس سوريا الديمقراطية، وقوات سوريا الديمقراطية، أن يخلق شعوراً حقيقياً بالكرامة القومية لدى الكثيرين من الكرد، ويرتفع بهم فوق إحساسهم القديم، بأنهم يُعاملون كأقلية وغرباء على الهامش. وفي الوقت نفسه استمرت القوى التقليدية في انشغالاتها واكتفائها بالسياسات الثابتة ضعيفة المرونة أمام التطورات الطارئة، وارتاحت كوادرها إلى احتضان الدولة الجارة القوية لها، مع بعض التململ الخافت بين فترةٍ وأخرى، تحت ضغط الانعطافات الفاضحة. عموماً، لم يستطع هؤلاء التنقيب في أسباب نجاحات الآخرين وفشلهم، واكتفوا بالحلول السهلة وربما المرتهنة، لمحاولة الخروج من مأزقهم.
ماذا حدث بعد ذلك؟ طرد الأتراك قوات سوريا الديمقراطية من عفرين في عملية «غصن الزيتون»، مع قبول روسي وصمت أمريكي. ثم طردوها أيضاً من منطقة استراتيجية بين رأس العين وتل أبيض، بقبول أمريكي وصمت روسي. ومباشرة بعد ذلك طردوها بلطف من دون عنف في باقي المنطقة المعنية كلها، وفرضوا يداً عليا تراقب وتسيطر، مشتركة بينهم وبين الروس. بشكلٍ موازٍ وعميق على حدودهم مع سوريا، التي يرون فيها احتمال خرق كردي لأمنهم القومي.
فاجأت إدارة ترامب العالم بقرار الانسحاب، الذي أربك الكثيرين حتى بين الأمريكيين أنفسهم، وجاء ذلك خصوصاً استراتيجياً على حساب قوات سوريا الديمقراطية، وتهويماتها التي «شطحت» كثيراً. فأخذوا يتخبطون في ردود أفعالهم، لتدارك خساراتهم على الأرض، ولو بسلوك الطريق «الحرام» في العلاقات والاتفاقات مع النظام. كان تراجعُ ترامب هذا، وتخليه عن حلفائه الذين أثبتوا إخلاصهم وكفاءتهم، وتقدم ُالأتراك والروس وبالتنسيق معهم، صدمةً لم تحسب حسابها قيادة قوات سوريا الديمقراطية، ليبدو من ثَمّ أن معركة الباغوز والانتصار الذي حققه فيها تحالف «التحالف» مع قوات سوريا الديمقراطية ذروةٌ كبرى أخفت وراءها السفحَ المنحدر اللاحق.
لعلّ ما هو أخطر الآن سوف يكون في استمرار مسلسل العناد والإقصاء والعنجهية، وعدم استنباط الدرس الكامن، في أن القوى الدولية والإقليمية كلها غضّت الطرف عن تمثيل الكرد في اللجنة الدستورية، في «بروفة» على احتمال حدوث ذلك لاحقاً على طاولات أكثر أهمية وفاعلية في مستقبل سوريا، ليس لأن تلك القوى لا ترى جدية محتملة في أعمال تلك اللجنة الدستورية وحسب، بل لأنها لا ترحم في اعتماد موازين قوى فظة تراعي أصحاب الأسهم الخارجيين على حساب جوهر القضية، وتستخف باحتمالات توليد المزيد من الإرهاب في المستقبل.
ربما كان على العرب السوريين أن يروا في الهزيمة التي حاقت بداعش على أيدي الأمريكيين وقوات سوريا الديمقراطية، تحقيقاً لأهدافهم أيضاً أمام الخطر الوجودي الداهم ذاته، ربما كان على الترك أيضاً أن يروا مثل ذلك، وليس عكسه، فيخففوا من غلوائهم قليلاً باتجاه تقديم مبدأ الحوار والتفاهم لفتح أبوابٍ جديدة ومختلفة أمام السلم
والأمن القومي. أما ما هو أهم من ذلك وأكثر نفعاً للمستقبل ودفعاً للماضي، فهو مراجعة المعارضات السورية لأوضاعها واستراتيجياتها، ونزع العدسة المكبرة التي يرون من خلالها ما يجري في جنيف، وإدراكهم قبل الروس والأمريكان والأمم المتحدة، أن هنالك نقصاً كبيراً في تمثيل السوريين عموماً لا بدّ من تداركه، من دون غض النظر عن أن ما يظهر من ذلك النقص فاقعاً هو من جهة التمثيل والوجود الكردي. وربما أن الأهم من هذا وذاك، أن يتراجع حزب الاتحاد الديمقراطي خطوتين إلى وراء، ويستفيد من حكمة الهزيمة. وكذلك أن تتراجع القوى الكردية الأخرى عن استسهال الارتهان والتأمين على المعاش، لينكبّ الجميع على العمل المجدي على تظهير الرؤية وتجديد السياسات وأدوات تنفيذها.
و رغم أهمية أمثال تلك المراجعات، يبقى العامل الحاسم هو الإقرار السوري الشامل بفشل السياسات السابقة وآليات تنفيذها وأشكالها التنظيمية، والانطلاق من عجز البنى الحالية نحو معارضات أخرى، وثورة أخرى.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي يكيتي ميديا