إيران والكلفة المرهقة
وليد حاج عبد القادر / دبي
منذ اللحظات الأولى التي استطاع فيها الخميني مدفوعا بثلة من آيات الله في ركوب موجة الثورة الإيرانية (التي أسقطت نظام الشاه أواخر السبعينيات)، ومن ثم الإطاحة بالشخصيات الليبرالية وإزاحتهم من واجهة الثورة، ومعها الهيمنة على كامل مفاصلها، ومع لحظة فرار الشاه بعد تشكيل شهبور بختيار لحكومته التي أشرفت على مرحلة أصبحت بحكم الجبر انتقالية مفترضة، وإن لم تدم، ولتظهر بعدها للعلن ممهدات لاستلام مهدي بازركان المسؤولية المؤقتة، والذي ترافق مع اتخاذ الخميني قرار العودة، مع انه وحتى قبل مغادرته فرنسا، كانت هناك أمور كثيرة قد تبلورت، وأخذت تتكشف وإن كانت ببطء وحذر شديدين ملامح المرحلة، ومعها أيضا خطوات ركوب / الحوزة الدينية المتسارع للثورة.
هذه العوامل وبمحركاتها تنامت مع الأيام، وأخذت تنفذ على أرض الواقع مع بدء هبوط الطائرة القادمة من نوفل لي شاتو قرب باريس وهي تقل الخميني إلى أرض مطار طهران، هما جملتان لربما كانتا أو أقل، في أول مؤتمر صحفي لخميني، حينما أجاب على سؤال عن خاصية ولغة جمهوريته الإسلامية، وحيث أن لغة الإسلام هي اللغة العربية؟ فهل ستكون إذاً هي لغة الجمهورية الوليدة؟
وكمن لفحته لسعة نار قوية.! لم يتردد الخميني في إجابته وقال: لا أبداً؟ صحيح نحن مسلمون ولكن قوميتنا هي الفارسية ولغة دولتنا ستكون الفارسية. هذه الرسالة التي أصبحت المفصل الرئيس في كشف كثير من الباطنيات التي كانت تصبو إليها حوزة خميني وبالتالي توجهات موجة رجاله المستقبلية، ولتنعكس معها من جديد على بينيات مجموعات الدولة الإيرانية، وليعاد معها الفالق ليتمظهر بين القوميات التي تتشكل منها بنية الدولة، وهنا وفي عجالة شديدة لابد من استذكار التصفيات التي تمت بالتدرج ومعها إبعاد الشخصيات الليبرالية والمنفتحة وطرد الخميني لأول رئيس منتخب – أبو الحسن بني صدر – الذي تم تنحيته بعد أقل من سنتين من حكمه حيث انتخب في الشهر الأول من عام ١٩٨٠ وأزيح في آب عام ١٩٨١، ومن ثم مقتل الرئيس الثاني (محمد علي رجائي) مع كامل مجلس الدفاع الأعلى الإيراني في اجتماع لهم – حكم ل ٢٧ يوم فقط حيث اغتيل في ٣٠ / ٨ / ١٩٨١.
وكشف هذا العمل عن طبيعة صراع الأجنحة وترتيباتها الدموية التي ما انتهت حتى تم استهداف الشخصية الدينية والحزبية – السياسية حجة الإسلام محمد بهشتي الأنشط والذي كان يعد الشخصية الثانية بعد الخميني، وهو من مؤسسي الحزب الجمهوري الإيراني وكان رئيس السلك القضائي ورئيس مجلس الثورة الإسلامية ومجلس الخبراء وكان ثاني أقوى الشخصيات في الثورة بعد خميني، ويعد عملية استهدافه وحشد كبير من المسؤولين معه في حزيران ١٩٨١ من أشد الضربات التي وجهت للتيار الجمهوري، وبالتالي تحكم رجال الدين وطلبة الحوز العلمية الموالين للخميني على مفاصل المجتمع، وترافقت معها وبعنفية عودة التناقضات القومية، وكان لابد لخميني من ابتكار واستيلاد عداوات بلبوس ديني فشيطن أمريكا والسوفييت، ومع توطيده لسلطتيه الدينية والحكومية أكثر داخليا، اتخذ مسارا فتويا وعليه كفر كل مخالف، وأي توجه قومي، واستهدف القوميات التي وفرت لمجاميعه كل الدعم اللوجستي، فأصدر بحقها فتاوى تكفيرية وأعلن عليها حروبا، ولعل أشد حملاته العسكرية كانت على شعب كردستان ايران، كتنفيذ عملي لفتاويه العديدة.
وفي ظاهرة الفتاوي كان أكثرها ذي صدى وبعدها كشفت التوجهات التوسعية والتمددية للخمينية، وتمثلت في فتوى الخميني بتصدير – الثورة – والتي أسست عمليا للسياسة التي اكملها خامنئي في خروج التشيع من حدود إيران ونشرها في مناطق عدة، هذه الفتوى التي طوقت ايران، وبذات الوقت استمرت تجلب لها ويلات تلو أخرى، وهي ذات الفتوى التي تسارعت حينها وبخطى حثيثة، ارتكزت واوجدت لها هياكل لموالاة مذهبية، استهدفت كل بقعة يعيش فيها اتباع للمذهب الشيعي، بعد مدهم بكل سبل وامكانات بسط التشيع وتوفير كل امكانات الإغراء المغلف بلبوس الإقناع، وهنا، وبعيدا عن التنظير والتأريخ والحروب التي خاضتها إيران مباشرة او خاضها آخرون – ولايزالون – بالوكالة، فقد استطاعت الطبقة الدينية وفي خلال فترة قصيرة من حشد واستقطاب جماهيري كبير في الحاضنات الشيعية، وبطاقة شحن مضاعفة وبقطيعية وولاء شبه مطلقين لشخص آية الله ومن ثم تطويبه وتكفير كل مخالف له فردا كان أو مجموعة، وعليه فقد ارتكزت سياسة تصدير الثورة، بعدما هيمنت عليها الحوزة ووضعتها تحت امرة جيش عقائدي صرف أسموه بالحرس الثوري، والذي بدوره تفرع الى خارج أسوار الدين، ولتتوسع مهامه، والذي ما عاد يكتفي بظاهرة التشيع الجامد على الإطلاق، بل اخذ يؤسس لبعد متحرك داخل مجتمع كل فئة وفي أية بقعة وتدفع بها الى الظهور العلني كحالة مميزة وخاصة.
كما ولا تخفي ولاءها أبدا للمرشد مثل حالة حسن نصرالله، وفي اختزال شديد، لقد دفعت نزعة الهيمنة المترافقة لفورة القوة المتلازمة وكضرورة لفرض الإرادة وأيضا بالقوة الجبرية، خاصة بعد خروجها المترنح مع عراق صدام حسين، ولسرعة فرض هيمنتها القوم – فارسية، بطغيان قوة رادعة، اتجهت ايران صوب القوة النووية والتي وضعتها من جديد في صراع حقيقي مع كل العالم، لأنها ببساطة لم تستطع مطلقا ان تخفي خبثها ونواياها الحقيقية عن العالم، بسعيها لامتلاك السلاح النووي.
هذه النزعة فتحت المجال لصراع جديد، ووضعت ايران أمام صراع داخلي عميق وبنمط جديد أيضا كانعكاس فعلي للعقوبات المتدرجة عليها، ورغم محاولة وريث خميني الذي أخذ يظهر كمتشدد أكثر، وإن حاول الظهور داخليا كممارس وحارس محايد للصراع بين المحافظين والإصلاحيين، ولكنه ما لبث ان ظهر على حقيقته مع الموسوي وكروبي ومعها كانت شرارة الثورة الخضراء عام ٢٠٠٩ وبداية هتافات الجماهير ضد خامنئي تطالبه بالعودة إلى جغرافيته والاهتمام بشعبه، وبالتالي ترك غزة ولبنان – روحي فدا ايران – واستطاع المرشد في قمع الثورة التي لم تخمد، ولكنها – الثورة – في ذات الوقت لم تؤثر في قرار تصدير الثورة والحد من تدخلات حكومة المرشد الخارجية ، بل وسعتها ، وزادت من رقعتها الجغرافية، واستهدفت دولا في قارات عديدة، وكانت للثورة السورية وانخراطها المباشر مع حزب الله فيها، أضف الى ذلك انخراطها العملي في حرب اليمن، لازمها بالضرورة، حالات تلاعبها بالمجموعة الدولية، في سعي حثيث للوصول الى السلاح النووي، حيث لم ينفع معها كل سبل المعاهدات، فكانت أن خضعت لعقوبات اقتصادية شديدة.
ورغم تبجح النظام بقدرته على تجاوز انعكاس العقوبات الاقتصادية على الحياة اليومية للمواطنين، إلا أن آثارها اخذت تطفو بسرعة مذهلة، لتصل إلى الشرارة التي اتقدت مع ارتفاع أسعار البنزين، ومعها ارتفع لهيب الاحتجاجات وبشكل عفوي أربك النظام بقوة إن في نمط وشكل ردة فعل المحتجين، أو في سرعة انتشارها وتمددها ولتغطي أكثر من خمسين مدينة في ساعاتها الأولى، وتتالت أشكال وانواع الاحتجاجات وتدرجت في صعودها لتحدي أمرين رئيسيين أولها حاجز الخوف وثانيها تجريد الهالة البشرية المقدسة والتي تمثلت بحرق صور خامنئي والخميني وبعض من المقرات الدينية، ورغم التهديد والوعيد وسقوط عشرات القتلى والجرحى، إلا ان مدى الاحتجاجات وجغرافيتها تمددت أيضا ليشارك فيها الكثير من المدن الصامتة كانت كما بعض القوميات مثل التركمان والآذريين، ومعها سقط رهان التقديس عن مدن مثل قم ومشهد.
وبالرغم من ايران محملة تماما بأجندات عديدة تعدد قومياتها وفئاتها، وان بعضا من هذه المجموعات والفئويات لم تتبلور فيها بعد رؤاها الواضحة، وعليه فمازال مواجهة النظام بالاحتجاجات، تتعدد مظاهرها من ناحية، يقابلها العنف المميز بين منطقة وأخرى، كما حالة مدينة جوانرود الكردستانية، إن ازدياد عدد نقاط الاحتجاجات وشمولها لأكثر من مئة مدينة، تشي بوضوح إلى أنها لن تكون كسابقاتها وهي مرشحة بقوة بالتوجه نحو تصعيد أكثر، وان حراك سياسي فعلي وتحالفات ستظهر وعليه تتوجب على الحركة السياسية الكردستانية الإيرانية التهيؤ من الآن وذلك بالتركيز على بناء إطار كردي جامع بيده اتخاذ القرار المناسب، ووضع مصالح الشعب الكردي وقضيته في سلم الأولويات، والعمل بكل جدية في توحيد قوات بيشمركتها وابقائها في طور الجهوزية لتدخل كوردستان في الوقت المناسب، وعلى أرضية ذلك اتخاذ الخطوات اللازمة مع أطر المعارضات الأخرى بما فيه مصلحة قضية شعب كردستان إيران، وفي الجانب الآخر – الكردستاني – يفترض من جميع الأجزاء الأخرى تقديم كل سبل الدعم والتأييد لهم، دون التدخل بأي شكل من الأشكال وتحت أية مسمى تكن في خصوصياتها ولكل ذي أجندات خاصة أو من تسول له طروحاته باعتبار كامل كردستان مجرد مزارع اختبار له، في الكف عن هكذا ممارسات، وليعودوا إلى حيث الجغرافيا الأهم والأوسع ببشره واستحقاقات قضيتهم.
المقال منشور في جريدة “يكيتي” العدد 268