استقلال كردستان بين «ممانعتين»!
نسق جديد من «الممانعة» بدأت ملامحه تتبلور في الشرق الأوسط، لسان حاله معارضة قيام دولة كرديّة، جهراً أو توريةً، عبر سرد رزمة حجج. «الممانعة» الجديدة، تختلف عن القديمة في عدّة نقاط، وتتقاطعان في أخرى.
«الممانعة» الأولى، خليط من القوميين واليساريين والطائفيين العرب، الذين يزعمون «المقاومة» لإسرائيل لكنهم يدعمون محور الإرهاب والإجرام الأسدي – الخامنئي، واستطالاته الميليشويّة في العراق ولبنان وفلسطين. هذه «الممانعة» انضم إليها حزب العمال الكردستاني، واستطالاته، منذ مطلع الثورة السوريّة. كما انضمّ إليها لاحقاً تيّار هيرو إبراهيم أحمد وملا بختيار، ضمن الاتحاد الوطني الكردستاني، بزعامة الرئيس العراقي جلال طالباني!. وكل المنتمين لهذه «الممانعة» على اختلافهم تجمعهم وحدة المصالح، لجهة معارضة قيام دولة كرديّة مستقلّة. ولكل طرف مبرراته ومسوّغاته.
«الممانعة» المستجدّة، عربيّاً، تضمّ خليطاً من الليبراليين الآتين من الخنادق القوميّة (البعثيّة – الناصريّة) والإسلاميّة واليساريّة، تختلف مع تيّار «الممانعة» الأولى، لجهة رفضها التغلغل الإيراني في الجسد العربي، وسطوة طهران في سورية والعراق، وتحريكها المياه الطائفيّة بغية الانقضاض أكثر على المنطقة ومقدّراتها. ومن جهة أخرى، تدعو هذه «الممانعة» إلى التعامل مع إسرائيل كأمر واقع، والالتفات إلى عقد سلام بين الأنظمة العربيّة وشعوبها، بدلاً من الاستمرار في حالة الحرب والقمع والذلّ والاستبداد التي تفرضها على الأوطان والمجتمعات والشعوب، بحجّة خرافة محاربة إسرائيل!. لكنها تتقاطع مع «الممانعة» التقليديّة لجهة رفض قيام الدولة الكرديّة، واعتبارها تهديداً لأمن واستقرار المنطقة، فضلاً عن أن الدولة القوميّة خيار متخلّف ومسموم. أما سير الكرد نحو الاستقلال، فهو عندهم تأكيد على بطلان ادعاءاتهم الوطنيّة، وهو ما كانت تقول الأنظمة القامعة للكرد، والنخب السياسيّة والثقافيّة التي تدور في فلكها، وحتى التي تعارضها أيضاً!. وكأنّ الأكراد لا مناص أمامهم إلاّ أن يكونوا في امتحان أبدي لإثبات حسن النوايا الوطنيّة حيال دول وأنظمة العروبة، «العلمانيّة» منها والإسلاميّة، ومعارضاتها، إلى قيام الساعة!؟.
هذه «الممانعة» حين تسرد الموجبات التي ينبغي على الكرد الالتزام بها، لا تطرح ما يطمئن الكرد ويخلق لديهم الثقة بأنهم يعيشون ضمن كيان وطني ديموقراطي مؤسساتي، عنوانه دولة الحقّ والقانون والمواطنة الحرّة!. علماً أن العمليّة يجب أن تكون معكوسة، إذ على الأنظمة العربيّة ومعارضاتها ونخبها أن تقدّم للكرد الدليل تلو الآخر على وطنيّتها وديموقراطيّتها وبراءتها من إرث وتقاليد وذهنيّة الاستبداد البعثي، الظاهر والمستتر!. وعليه، فمن يقدّم دروساً في الوطنيّة والمواطنة والوعي الديموقراطي للكرد عليه أولاً أن يكون ممتلكاً إرثاً وتراكماً ومراساً وتجارب…، يُعتدُّ بها في هذا السياق، لا أن يكون كلامه محض تنظير ومزايدة!.
يطرح أقطاب «الممانعة» رفضهم لقيام الدولة الكرديّة، على أنه ليس رفضاً لحقوق الكرد، فهم أصدقاء الكرد «الوطنيين العقلاء» وهم ضدّ الأنظمة التي قمعت الكرد وهضمت حقوقهم، ومع رفع المظالم عنهم…، إلى آخر هذه التنويعات، إذ أن رفضهم قيام الدولة الكرديّة يتأتّى من الحرص على الكرد وأمن واستقرار المنطقة وديمومة عرى الأخوة بين شعوبها. ولهذا فـ «اغتنام اللحظة التاريخيّة» «براغماتيّة» كرديّة وقحة، وليٌّ لذراع العرب!، ومن يتبنّى طرح قيام الدولة الكرديّة متطرّفون، بعيدون عن العقلانيّة!. وهذا في حين أن تاريخ سورية والعراق وتركيا وإيران يؤكد على الدور الوطني للكرد في الثورات على المستعمرين، إذ لولاهم لما نجح أتاتورك في تأسيس تركيا، ولما نجح الخميني في «ثورته» على نظام الشاه، بالإضافة إلى ثورات الكرد على الإنكليز في العراق، وعلى الفرنسيين في سورية.
وتذكيراً، فالكرد دوماً كانوا عرضةً للغدر والخيانة من الأنظمة السياسيّة الحاكمة في المنطقة ومعارضاتها، ومن نكث الوعود التي قطعت لهم!. زد على ذلك أن الثورات الأخيرة كشفت أن معارضات الأنظمة الاستبداديّة في سورية والعراق هي نسخة مشوّهة عن هذه الأنظمة. وفوق هذا وذاك، إذا كان العربي المسلم يذبح العربي المسيحي، والعربيّ السنّي يذبح العربي الشيعي وبالعكس، نتيجة الخلافات والأحقاد الممتدّة لأكثر من 1400 سنة، فما الذي يضمن ألاّ تكون الأنظمة التي ستحلّ محلّ الأنظمة الحاليّة، أشد فتكاً بالكرد من السابقة؟!. وكيف يستطيع الكرد، طيّ صفحات الأحقاد والحروب التاريخيّة بين الشيعة والسنّة في المنطقة، ودمقرطة الأتراك والفرس والعرب؟!.
ويكرر المنتمون إلى «الممانعتين» مبرراً مشتركاً، أثناء طرحهم رفض انفصال كردستان العراق، مفاده أن تركيا وإيران سترفضان هذه الدولة، لأنها ستشجّع الكرد في البلدين على الانفصال!. وهذا المبرر سقط بالتقادم، مع بروز المصالح الاقتصاديّة المتناميّة بين أنقرة وأربيل، وسعي الأولى إلى تسوية سلميّة مع العمال الكردستاني. وغالب الظنّ أن «الرفض» التركي لانفصال كردستان هو للاستهلاك المحلّي، على اعتبار أن تركيا مقبلة على انتخابات رئاسيّة، وكي لا يُعتبر الصمت أو الترحيب التركي بقيام الدولة الكرديّة على انه انسجام مع الترحيب الإسرائيلي بهذه الدولة!.
في المقابل يبقى الترحيب الإسرائيلي عرضة للاشتباه، الهدف منه زيادة التأليب العربي والتركي والإيراني على انفصال كردستان، وليس التشجيع له، على ما فهم «الممانعون»!. ذلك أنه لو كانت تل أبيب وواشنطن مع استقلال كردستان، لكانتا فصلتها عن العراق بشكل كامل، منذ أمد.
وخلاصة القول أن على الشرق الأوسط والعالم أن يحضرا نفسيهما لولادة دولة كرديّة. وهذه الدولة يجب أن تحظى بترحيب النخب العربيّة ودعمها، لأنها ستكون أفضل، بسنوات ضوئيّة، من نماذج الدول القوميّة الفاشلة التي فرزتها اتفاقيّة سايكس – بيكو وأهدتها للعرب والترك والفرس، والتي بدورها أنتجت دولة «داعش».
الحياة