هواجس قسرية
ليلى قمر\ديريك
وقفت على شرفة البيت تتأمّل الشمال وهو ينوء تحت ثقل جبله الشاهق ووطئها ، تشمخ حيناً بروعتها وهدوئها ، أو تكتئب لتعربد ، هكذا حالها حينما تنكشف للناظر اليها من بعيد ، أرتال !! .. لا لا طبقات من هلام غامض متتال ، اشبه ما تكون بألواح زجاج تميل وتتحرّك في أشكال هندسية ، تلمح بين ثناياها خيوط سوداء ، أو قد تتحوّل إلى هالات فطرية كانعكاسٍ – يبدو للناظر إليها – أشبه بشعاعات تصدرها الغمامة ، فتتلقّطها شبكة العين ، وكومضاتٍ متسارعة تتداخل وتختلط ، لا تلبث أن تتداخل من جديد كحلقات متشابكة .. صوت بكاء طفلة ارتفع في الشارع ، أزاحت بعينيها شرقاً ، ومن جديد كان هو الجبل أيضآ ، وإن بانت فيه الشدة وعليه الجبروت أكثر ! عجبي ! هل هو الشمس بتجلياته ؟ وشدة حرارته ؟ لا .. لا أظنّ ذلك ! لا لا مطلقاً أيها الجد أنت يانوح ! وما قيل أو قالوا في سيرتك ونقلاً عن لسانك ؟ أجل ! هل هو الوفاء لعقل تيبّس كما صخوره ؟ أم منطق عدم الانحناء حتى لجبر وسِّم كتحدٍّ للطبيعة الهدّامة ! .. ياااه ! .. يا جدتي الجميلة كنت فعلاً جميلة ! .. وهي حكاياتك كانت و .. هما الجبلان ومن وحي ذات الأسطورة كانت وبقيت ( جبل الخير أنت يا الجودي ) و ستبقى كمرثيتك أنت يا ( الجبل لا خير فيك سوى هدير مياه طوفانك ) . أعادتها صوت بكاء الطفلة إلى شرفتها وأباصيص ورودها ! وبخمول كانعكاس للفوضى التي أحاطت بكلّ بقاعها ، دنت من – مشتلها – كما أحبّت أن تسمّيها ، واقتربت من زهورها وأخذت تسقيها ، وهاجس هذه الأيام بفظائعها تتواتر كما صدى نيسانك يا أرض الطوفان وها هي ؟! أصوات رعودك وبروقك تعلو في السموات .. انتبهت إلى الورود وحسرة طويلة كانت قد تراكمت .. الآهة طالت ، وبعض من العصافير التجأت مرعوبة صوب الأسطح والبيوتات ، تسعى لتحتمي بأيّ شيءٍ .. حتى أنتم يا طيور السماء ينالكم ما ينالنا من فزعٍ يفتك بكم ، الله ياالطيور أنتم ! هل تدركون بأنكم أصبحتم أشبه بنواقيس إنذار نستشفّ منها الخطر القادم .. نعم ياالعصافير الجميلة ! أوووه ! جدتي ؟ لِما كلّ أمر جميل تقودني إليك وببسمتك تركن نفسي بهدوء وارتاح ؟! .. صوت أشبه برعدٍ قاصف دوى في الأفق ومرّ بسرعة مذهلة من فوق الأسطح ، تبعها جلجلة ضجيج ترافق باهتزاز عنيف .. لقد صدقتم ياالعصافير ! هي طائرة عبرت وللأسف لم أتمكّن من معرفة الجهة التي إليها تتبع ! .. حاولت العودة إلى سقايتها .. ويحي ؟! .. ياالعصافير ؟ هل شحّت براري ديريك ١ من بقايا حبوب فتتلّقطونها زاداً لكم .. عصفور وعصفورة يقفزان رعباً على أرض اسمنتي مبلط ، وعيناهما كرادار تمسحان كلّ شيء بحثاً عن حبة يلتقطانها .. صبراً ياالعصفوران الجميلان ! محظوظان أنتما ! أوووه ! وكمن تذكّترت أمراً هاماً ! هي حبات القمح المجروش وقد وضعته في الماء ليلين قليلا ويتماسك ، وذلك لوجبة كبة اشتهاها صغيرها جوان .. دخلت المطبخ وجاءت ببعضٍ منها ، وماءٍ وضعته في صحنين صغيرين .. وعادت مجدّداً إلى زهورها ، وبدأت في السقاية ولسان حالها يقول ( من يدري بأيّ بوطٍ عسكري سيدوسون عليكنّ شتلاتي الجميلات ) ، دندنت بصمتٍ داخلي عميق ( دا ورن كولا بجينن هاكولي هاكولي هاكولا من ) ٢ .. أوقفت دندنتها .. اخذت تصيخ لضجيجٍ وحركةٍ دبّت بشكلٍ فجائي في بيت الجيران ! إذن ؟ لقد قرّروا الرحيل ؟! .. هو الرحيل لا شكّ فيه ومنه ، وهي ذات البؤس الذي تراكم منذ سنين طويلة ، لا بل هي في الواقع الدمغة التي أشبه ما تكون بشهادة تعريف لنا ، ربااه ياالجميلة أنت جدتي ؟! جميلة كانت مقولتك عبر السنين ، نعم ! .. نحن والترحال صنوان ، حيث سنكون هو يكون ، و أينما حللنا سيسبقنا في ترتيل أناشيد الرحيل .. أعادتها صوت الجارة تنادي زوجها .. و… هي ، نعم ؟ وأنا ماذا عني ؟ الأطفال ، الجيران ، الأخوة والأخوات .. لا لا ! والأهم أبي أنت وأمي .. ديريك أيتها البلدة الوادعة أنت أيعقل ؟ .. أيعقل أن نغادرك ؟ وأنت يا ال – جم – ٣ تدفقك أزلي ، هو هكذا قالها جدي منذ أيام جده لجدي .. وهاهي جدتي جميلة الهائمة عشقاً بهذه الساقية ، أيعقل بأنها ستجفّ ، تندثر ! . ديريك الزهور والنرجس وشقائق النعمان ، ديريك التي تتعانق فيها المساجد والكنائس ؟ أيعقل أن يغلّفها السواد ؟ .. صوت جرّار يتقدّم من ناصية الشارع .. تأمّلته .. إذن هو الرحيل بأقاصيصه ، وهاهي قد ابتدأت تبصم بسرياليته ، وأنت أيتها الهائمة عشقاً بهذه البيوتات تحوطك ساقيتك ؟ ليتك استطعت أن تلملمي ال – جم – كلحاف .. لا لا : كجديلة ، مثلما كانت جدتي جميلة تقول وأيضاً على لسان جدتها .. كانت تخاطبنا وتقول لنا نحن أحفادها : ( كجكنو ) ٤ أيتها الفتيات ؟ الجداول والسواقي كما الأنهار هي ذات الجدائل التي تظهر فيكن جمالكن … أووه ؟ جدتي .. جميلة ! .. ياالجدة أنت كنت كما كنت وذات المثل الموروث فينا ازلاً ( شير شيرا ج ژنا ج ميرا ) ٥ . هو الرحيل هاقد بدأ ، وغالبية المدينة تلملم ما خفّ وأفاد ، و هو أنين لرحيل قسري يزحف ليطوّقنا ، هي حالتنا كما كنت تردّدها دائماً لنا ( بابير ) ٦ .. ايها الجد ! وقد عتقتك الحياة بصخبها ، هي نصيحتك كانت : إن تململ القطيع وطأطأت الماشية رؤوسها ! عليكم أن تدركوا بأنّ القطيع ذاهب إلى فوضى .. ياااه !! .. ياللزمن الجميل جدتي جميلة ! كم أعشق هذا الإسم ! تمنيتك معنا في هذه الأيام الصعبة و … أثق بأنك لو كنت بيننا لما فقدنا البوصلة ؟ .. لكنه زمن مختلف ؟ .. نعم مختلف تماماً ! .. الموت يزحف من وفي كلّ الجهات و .. الشلل أصاب فينا عميقاً ، وبتنا نملّ أو نعجز .. لا لا .. لنكن صريحين ؟ أما كنتن صادقات خالاتي .. وأنت أمي .. أجل ! لقد كنتن تجهزن مؤنة الشتاء ، ورغم ذلك الشعور الزاحف إلى جوانياتنا ، فتطلعتن فينا ، ونظراتكن تحاول زرع الأمل بدواخلنا ،ولسان حالكن يقول اطمئنّوا و … انخرطن جميعاً في بكاء تعالى نحيبه ومعها تتالت تغرز فينا حيرة واستفهام ؟! … : عجباً لمن ستؤول هذه المؤنة .. و من ذا الذي سيتناولها ؟ .. ساد صمت و توجّس ! .. وتعالى أنين بكاء كان مكتوماً و .. بدأ الهمس يعلو قليلاً :
فليكن فنحن من رائحة عطر زهور – زوزان – ٧ وأبناء الرياح نزرع ربيعنا أينما حطّ بنا او قذف فينا الرحيل
….
هوامش :
١ – ديريك : مدينة تقع على مثلث الحدود السورية – التركية – العراقية ، وقد تمّ تعريبها إلى المالكية .
٢ – ( دا ورن كولا بجينن … ) أغنية من التراث الكوردي وشرحها : تعالوا وازرعوا الورود .. ايتها الوردة .. يا الوردة انت وردتي ..
٣ – جم : بالكوردية ومعناها ساقية الماء
٤ – كجكنو : يا الفتيات / الصبايا باللغة الكوردية
٥ – شير شير ج ژنا آن چي ميرا : مثل كوردي تضرب في الشجاعة وترجمتها.. الاسد أسد إن كانت إمرأة او رجلا
٦ – بابير : كلمة كوردية وتعني الجد
٧ – زوزان : وهي المناطق المرتفعة الجبلية التي تكثر فيها المراعي لمربي الماشية حيث يصعدونها في اوائل الربيع ويهبطون الى السهول مع أوائل الخريف.