آراء

حدود قيميّة

د. سميرة مبيض

لا بد ان المشهد العالمي الحالي تجاوز الأزمة الصحية العابرة الى انعكاس مُباشر لأزمة سياسية قيمية تراكمية على امتداد القرن الماضي. فهذا المُنعطف الوبائي الذي يؤثر ببعد عالمي على استقرار المجتمع والاقتصاد لا ينجم عن عامل مُفرد لانطلاقه ولا تنعكس نتائجه على مسار ذو اتجاه واحد فقط بل يمثل رمزياً مخاطر عديدة قد تواجه المجتمع البشري مُستقبلا تتطلب إعادة رسم الحدود القيمية على عدة صعد أظهرت هشاشة وضعفاً مُقابل التحدي الذي يواجه البشرية اليوم.

فمن بين القيم التي وُضِعت بامتحان مباشر في هذا التحدي، مفهوم التضامن الإنساني وهو مفهوم تبناه المُجتمع الدولي من أجل الحفاظ على الأمن والاستقرار الجماعي. ويُعدُّ أحد أهم القيم الأساسية للاستقرار العالمي، وفق تعريفه المتضمن للشعور بالمسؤولية والأخوة بين جميع البشر وبكونه سلوك اجتماعي يدفع لدعم قضية تؤثر على البشرية جمعاء كما أنه يُعتبر شرط أساسي للتنمية ولتطور البشرية. هذا التضامن الإنساني ذاته الذي وُضع تحت الطلب الاسعافي وعلى وجه السرعة لمواجهة الجائحة الوبائية الأخيرة لم يكن حاضراً فعلياً قبل هذا المنعطف.

بل غاب هذا التضامن عن دعم شعوب طالبت بحقوقها في النمو والتطور والازدهار العلمي والطبي والثقافي وواجهت نظم قمعية تُشكل بيئة منتجة للتطرف والفقر والتشدد والعدوانية بيئة تهدد أمن واستقرار العالم، كان الأولى التصدي لها لإتاحة بناء منظومة جديدة تعتبر جزءاً من المنظومة العالمية للأمن والاستقرار وتدعم بدورها التضامن الإنساني كقيمة عليا على عكس نظم القمع التي تؤسس للفردية والكراهية والعنصرية. ولا زال هذا المفهوم مُلتبَساً يُستخدم   في غير سياقه حتى بعد الجائحة الوبائية حيثُ يُستخدم زيفاً كمحاولة لإنقاذ نظام شمولي مناقض لأي مفهوم قيمي كنظام الأسد تحت مفهوم التضامن المتكئ على تشابهات أيديولوجية.

ومن التوجهات التي ستستدركها الإنسانية بعد منعطف جائحة القرن والعشرين أيضاً هو منظور البحث العلمي، فقد وُضع تحت الطلب الاسعافي وعلى وجه السرعة لمواجهة الجائحة الوبائية الأخيرة ولإيجاد حلول إنقاذية للبشرية، حلول تتطلب عادة سنوات من البحث والاجتهاد. فالمنظومة البحثية اليوم تُضّيق الموارد على البحث العلمي والمؤسسات الاكاديمية كما أنها لا تنطلق بما يراه الباحث ضروري للعمل عليه بل هي مرهونة بخطوط عريضة تطرحها مراكز التمويل المعتمدة ليتأقلم معها الباحثون ويوجهوا بحوثهم وفق المواضيع المطروحة للتمويل تاركين على الرف مواضيع بحثية تنبع من قراءاتهم لحاجة المرحلة ومن استنباطهم للتطورات المستقبلية كل في مجال بحثه. فالفيروس قيد الانتشار اليوم هو فيروس تم اكتشاف أرومته الأولى عام ألفين واثنين وأطلق علماء وباحثون برامج بحثية للتعمق به ودراسة آلية تضاعفه وآلية حدوث الطفرات الوراثية ضمنه وآلية انتقاله وتفاعل الجهاز المناعي البشري تجاهه، كثير منها أبحاثٌ عُلقت بانتظار الحصول على دعم يُتيح استمراريتها ولم تحصل عليه، فأُهملت مقابل مواضيع أخرى تُطرح للدعم وفق معايير مُختلفة بالإضافة الى استهلاك جهد الباحثين في تعقيدات بعيدة عن جوهر عملهم.

كما يُفترض أن تستعيد المنظومة الصحية والطبية المُتضامنة والعابرة للحدود أولويتها وأهميتها لمُستقبل البشرية بعد هذا التحدي، لتكون مقياساً على تقدم الدول ومقدرتها على مواجهة أي تحديات قادمة شبيهة بهذه الجائحة وفق مقاييس معيارية تضمن المساواة في التقدم العلمي وفي استفادة البشرية منه، لتعود المشافي لمكان الصدارة مُتجاوزة مراكز التسوق العالمية ومطاعم المأكولات السريعة ودور العبادة حيث كشفت الجائحة الغطاء عن البعد الاجتماعي المؤسف لبعض الانحرافات في المفاهيم الدينية ولاستخدام الغيبيات والجهل لمواجهة الامراض والطعن بالعلم والعلماء وادعاء وجود مؤامرة موجهة ضد الأديان. هذا التقويم سيُعتبر مرتكزاً هاماً لإعادة الأديان لمكانها كمرتكز أخلاقي بعيداً عن هذه التوجهات المغلوطة التي تُعيد البشرية للقرون الوسطى عوضاً عن الدفع بها قدماً.

وأخيراً ومن أجل أن يكون هذا المنعطف بداية تقويم لمسار البشرية السائد في القرن الأخير فمن المهم الاستدراك المُباشر لآلية تعامل الانسان مع محيطه الطبيعي، فهذه الجائحة الوبائية بدأت وتستمر بفعل حوامل ومؤثرات تتعلق بالبيئة المُحيطة بالإنسان بشكل مُباشر، وتتعلق بشكل أدق بحركية النظم البيئية المتضمنة لعلاقة المضيف بمسببات الأمراض وتعدد المُضيف وتغيير سلوكياته والنطاق الجغرافي لحركته، وهي عوامل مُتعلقة بدورها بالتغيرات المناخية وبتأثير نشاطات الانسان على هذه المنظومة، وبظهور منعكسات أي خلل على الخدمات البيئية أي الوظائف غير الظاهرة التي يقدمها المحيط للإنسان. مما يدفع بالمفاهيم البيئية اليوم لتُعزيز تواجدها كقيمة إنسانية عُليا مُرتبطة بأمن العالم واستقراره بشكل مُباشر. وهي قيم تتعارض مع كثير من المفاهيم السائدة خلال العقود الماضية وتواجدها يعني تراجع مفاهيم أخرى تعتمد على الاستهلاك المُفرط وعل فصل المسارات السياسية، الاجتماعية، الصناعية، الزراعية والاقتصادية عن المفاهيم البيئية في حين أنها تُشكل جزءاً لا يتجزأ منها.

مفاهيم ما بعد الجائحة سترسم مستقبلاً حدوداً جديدة، حدوداً قيمية بين دول سترتقي للتصدي للقادم وأُخرى ستبقى متكئة على مفاهيم بالية تستخدمها لقمع الشعوب وتأخير نهوضها ويبقى تأخيراً فالحتمية هي في التطور الإنساني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى