آراء

الجذر الطقسي للغناء الكُردي

وليد حاج عبدالقادر / دبي

في مواضيع عديدة تقاطعت مع هذا العرض والتي بدورها تداخلت مع عناوين تعدّدت وتشعّبت ولتعود لتتجذّر في الأساس وتتواصل في آلية تشكّل أنماط الوعي المجتمعي بالترافق مع تطور المجتمع الإنساني منذ لحظة انفصاله البدئي عن الطبيعة والبدء بحيازته المتدرّجة عليها وتسخيرها لأنماط حياته ، وباختصار وكما ذكرناه سابقاً في استعراضنا للتأريخ الموسيقى ، ولحظات صرخة الدهشة الأولى التي رافقت انطلاقة الوعي البشري والتي تدرّجت في التوائم من خلال ملكة الإحساس – الشعور وما يحيط به من الأصوات وصدى المحيط ككلٍّ – وليبني عليها فيما بعد ماسمي لاحقاً بالموسيقى والغناء ، حيث تعدّدت معها التعاريف كما المقدمات المحفّزة لظهور الغناء التي يمكن تعريفها وباختصار ( .. أنه بالنسبة للإنسان أداة للتعبير عن الانفعالات النفسية المختلفة التي يمرّّ بها، وهو أيضًاً لونُ من ألوان التعبير الفطريّ الإنساني ، فهو مجموعة من الجمل والألفاظ التي تعبّّر عن الأفكار ولا يقتصر الغناء على نوعٍ واحدٍ فقط، بل يوجد أنواع عدّة من الغناء والأغاني، وكلّ نوعٍ يختصّ بطريقة ما .. ) .. ( .. أما أنواع الأغاني .. : أغاني الأطفال … والأغاني الشعبية والفلكلورية، والتي تكون غالباً ذات أصولٍ مجهولة، ويتناقلها الناس شفهياً، و الأناشيد الدينية ٢ .

أما كيف وصل الإنسان إلى مرحلة الغناء ؟ فهي ببساطةٍ شديدة لحظة اكتشافه أنّ الدموع لم تعد كافية ( .. للتعبير عن مدى حزن البعض .. وبعدما فشل البكاء واللطم والإغماءات حتى في التخلص من تلك المشاعر فاكتشف الإنسان أنه يستطيع الغناء وأنشد للآلهة أولاً .. ) . ونظراً لتزامل الموسيقى والغناء فأنه لابدّ من التطرّق إليهما بالتشارك كما أسلفنا في موضوعة التاريخ الموسيقي وأنشودة آلهة أورحيا الحورية – نينكال حيث تحوّل الحزن إلى الصراخ، ولتتطوّر الى الغناء .

( عندما اكتشف الإنسان أنه يستطيع الغناء لأول مرة . وقد قدّم الباحثون عدة فرضيّات لتحديد بداية الغناء ، منها أنّ الإنسان الحجريّ رغمَ عدم امتلاكه لكلماتٍ واضحة، إلّا أنّه عرف الغناء من خلال ألحانٍ منسّقة؛ فقد وجد في العديد من الكهوف مزاميرَ وشبّاباتٍ مصنوعة من عظامٍ صغيرة. أمّا أقدم أمثلةٍ غنائيّة فقد عُرفت في منتصف القرن الثالث قبل الميلاد، وكانت عبارة عن نصوصٍ مكتوبة منذ حضارة سومر والحضارة المصريّة . ولعلّ من أهم أنواع الغناء ( .. هو الدويتو ، ويسمّى أصلاً بالديالوغ الغنائي، وهو عبارة عن حوارٍ غنائيّ منسجم في الأداءِ واللّحنِ والصّوت بين الفنانين .. ويتناول الدويتو الغنائيّ مجموعةً من المواضيع الاجتماعيّة، أو العاطفيّة، أو السياسيّة، أو الوطنيّة..ويكون أسلوب الدويتو على شكلِ فقرات، أو أسئلة وأجوبة، أو أخذ وردّ. وعادةً ما يكون هدف الدويتو هو جذب انتباه المستمع. وينجذب الجمهور لأغاني الدويتو؛ لأنّها تكون مختلفةً عن نمط الأغاني التقليديّة التي يغنّيها مطربٌ واحدٌ، كما ينجذب إليها المطربون لأنّها تعطي فرصةً لشهرةٍ كبيرة .. )

وفي العودة إلى الغناء الكُردي وكجزءٍ رئيس من الإرث والتراث كما الفولكلور الكُردي ، وكواحدةٍ من الشعوب الأساسية والتي تصقّلت وطوّرت ثقافتها وفق سمات ثقافة ميزبوتاميا والموسومة أصلاً بصفات طقسية خاصة استندت في الأساس على انموذجي نمطية حياتها المجتمعية الزراعية – الرعوية وبالتالي تشاركيتها الموسمية اصلاً على قاعدة الحياة والموت ومن ثم العودة إلى الحياة في إنتاجٍ فعلي لثقافة التضاد من جهةٍ والتقاطع الفصلي المناخي وأيضاً المتضادة فكان الخريف الذي يمهّد للموت المحقّق يليه محفز الإحياء مجدّداً وهو الشتاء والعودة المتجدّدة للحياة وهو الربيع ويليه مرحلة دخول الجفاف والذبول استعداداً للرحيل وهلم جرا ، ويمكننا تلمّس ذلك في الأغنية الكُردية – ( heyla bi xêr bê bîka buharê ) والتي تتوالى فيها الفصول الأربعة ، ونلاحظ هنا تواتر إطلاق مصطلح – اسم العروس على قضايا طقسية أخرى مثل – bîk baran – * وكذلك احتفاليات رأس السنة أيضاً ومن جديد طقسياً و – qirdikê serê salê – * ( dem û dem kîskê qedem .. serê salê binê salê .. ) ** وعليه هنا وباختصار ، واستناداً على الطقسية الموسمية لمجتمعٍ زراعي – رعوي فمن الطبيعي أن تكون هي بالذات الركيزة الأساس لعموم محاور وعيها ، والتي شئنا أم أبينا ستعيدنا إلى ذات الفحوى المنظّمة لأسطورة اينانا ودوموزي والموت الأسطوري المتجلّي في طقسيته الرمزية وفصليه : الخريف كمعادل للموت والربيع الحياة وبزمنٍ متساوٍ رمزياً أيضاً مع موت دوموزي وبقائه ستة شهورٍ في العالم السفلي وعودته إلى الحياة بعد قبول الإله الكبير شفاعتها في فصل الربيع ، وفي العودة إلى الغناء الكُردي سنلاحظ ذلك النمطين كإطارٍ جامع لهذا الوعي الميثولوجي في الطقس الغنائي ١ – peyzok 2 – buhariyan وكلّ نمطٍ يتخصّص بعنوانٍ عريضٍ حيث الخريف هي أغاني اللوعة والفراق والحزن أما الربيع فهي أغاني البهجة والفرح والسعادة وهي تتدرّج حتى في تراتبيات الأعراس أيضاً كتجسيدٍ عملي مكثّفٍ لظاهرة الموت الأسطوري ومحفّزات العودة إلى الحياة ، وباختصارٍ ! وفي العودة إلى نمطي الغناء سنلاحظ وببساطةٍ أنّ كلّ نمطٍ فيها يحتوي على عناوين لمجموعاتٍ وأيضاً لأقسامٍ منها فنرى في أغاني الخريف – بيزوك – كأصلٍ وفرعٍ وتتميّز بالتركيز الفصلي وإن ابتدأت ب -ey were lawik – حيث تركّز الأغنية على المطر وتذكّر أيضاً بتحوّلات الفصول ، ويليها كما ورد أعلاه مقام – الدويتو أو الديالوك – بالكُردية ديلوك – وهي مقامات مشهورة جداً في كلّ اجزاء كُردستان وباسمها الطقسي – حيرانوك – وهي حواريات غنائية عادةً تتمّ بين شاب وفتاة وأشهر أغانيها – jaro heyran – وهذا النوع من الغناء يمتاز برقي العبارة وجرأة التوصيف سؤركّز هنا على طقسيتها الخاصة بمجتمعٍ رعوي زراعي اعتمدت أصلاً على نسقية الحياة والموت ومن ثم الحياة .. هلم جرا ، وتليها – مومنة – الوصفية ، وبعدها – bakokê – ومن اسمها نعلم بانها تقصد الطقس الشتائي ونمطية الجبال ويليه نوع من السير الشخصية مثل – sofî ibrahîmê kijalî – ويليه كانموذج – memikê mino – .. الخ ويليه عنوان آخر يعرف ب – serîlî – واشهر أغانيها – sînem – ويليها – êvarê – وهي أغاني أشبه ما تكون بالأطلال .. وهذه المجموعة كلها يؤطرها غالبية المغنّين ضمن إطار المقام البوطاني المميّز حسب رؤيتهم بأنها – الأغاني – انعكاس لقصص واقعية من جهة والكلمات منظّمة إن برقي المعنى أو جمال الصورة حتى أنّ بعضاً من الغزل الراقي يمرّ بانسيابيةٍ جداً رائعة ، وعلينا ألا ننسى – laviŝ – ويليها – lawik – وهناك مقام خاص للعزاءات – معزيلي – هي للحداد ويصنّف تحت بند – nalîn – أو – narîn – وهي مقامات حزينة جداً ترافق العروس لحظة خروجها من بيت ابيها إلى بيتها الجديد وآلية التحوّل الزمني الطقسي من أغاني اللوعة إلى بوهاريا بعد تجاوز الخط الطقسي الفاصل وكواحدةٍ من روائع أغاني اللوعة هي : أغنية – raakin bînin bîkê delalê – هذه الأغنية الجنائزية هي ذاتها التي تستخدم في حالة وفاة زوجٍ شابٍ حيث كانت تجهّز زوجته كعروسٍ كلّ يومٍٍ وتذهب بها النسوة إلى قبر زوجها صباحاً وهنّ تردّدن هذه الأغنية ، وفي الختام علي أن أذكر بالغناء الملحمي والقصصي وكذلك الراقصة بمختلف أنواعها الطقسية منها والعاطفية ، وعلي أن أنوّه على أمرين : أولها التصنيفات التي وردت وإن لم أتطرّق إلى – bêlîte – وكذلك أغاني – palehî – و – bêriyê – وعلى أمل اللقاء مع الفنان هچال علانا وتفاصيل متخصّصة مع تدوين مقطع من كلّ أنموذجٍ

الهوامش :
١ – سطور كوم .. تعريف الغناء ، عبدالله عبيد ٣/١٠/٢٠١٩
٢ – المصدر السابق
٣ – بلال همام مصدر تاريخ ٥/١٠/٢٠١٨
٤ – رصيف ٢٢ مصدر سابق
٥ – موضوع كوم
٦ – كلّ الشكر والتقدير للفنان القدير هچال علانا على معلوماته القيمة على أمل لقاءٍ موسّع حول الفن والمقام البوطاني في العدد القادم

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى